ضمن أيام "مهرجان أفينيون" المسرحي، الذي تحتضنه المدينة الفرنسية حتى 24 من الشهر الجاري، قدّم المخرج الفرنسي جوليان غوسلان (1987) العروض الأولى لعمله الماراثوني (10 ساعات متواصلة) المقتبس عن ثلاث روايات للروائي الأميركي دون ديليلو (1936). العمل الذي يحمل اسم الروايات الثلاث "اللاعبون، ماو الثاني، الأسماء"، يعد أحد اكتشافات الدورة الحالية للمهرجان الفرنسي الشهير، وفيه يعود المسرحي الشاب إلى الأدب مجدداً ليقدم عرضه الأخير، حيث سبق وقدم منذ عامين مسرحية "2066" عن رواية التشيلي روبرتو بولانيو.
يشكل الإرهاب كثيمة محور كل حكاية من الثلاث المقدمة على الخشبة، فهو المحرّك الأساسي الذي يعتمل في دواخل أبطال المسرحية. في "الأسماء" تدور الأحداث في السبعينيات على ضفة متوسطية؛ حيث يستمر البحث عن رجل من قبل مجموعة تقتل ضحاياها باستخدام الأبجديات القديمة، وفيها لحظات كثيرة غير مبررة وبعيدة عن سياق وأجواء العرض، كمشهد الاستحمام بالدماء مثلاً.
أما نص "اللاعبون" فيحكي عن رجل ملّ من العلاقة مع زوجته بسبب العنف المطلق في زمن الصراع بين الليبرالية والتطرّف في نيويورك الثمانينيات، حيث أجواء الذعر والهلع عقب قتل رجل في مركز تجاري. وتروي "ماو الثاني" قصة كاتب مفتون باللغات والحشود، على وشك فقدان ملكته في الكتابة، فيحاول الاختفاء بالانضمام في تنظيمات إرهابية متخيّلة تتحرك بين بيروت وأثينا وعمان للتعرّف عليها وعن آلية عملها عن كثب.
تتداخل فضاءات المدن بحسب تطوّر الصراع الدرامي، فمن نيويورك إلى لندن مروراً ببيروت وعمان وأثينا، تبدو غريزة القتل وكأنها الرابطة الأقوى في علاقة الشخصيات مع المكان وأداتها في تحليل العالم المحيط والتواصل معه. العنف يقترب شكلياً من أفلام تارانتينو وكمادة اشتغال ومنطقة بحث مثيرة تتقاطع كثيراً مع أسئلة ستانلي كوبريك عن العنف ومصدره وحاجة البشر له.
ضمن هذه الأجواء المليئة بالصخب والعنف والقتل التي تغلّف حكايته يبدأ غوسلان بالكشف تدريجياً عن أحد مباحثه ألا وهو الكشف عمّا هو أبعد من العنف البشري، فنراه يذهب للأقصى في تقديم لحظات حميمية لهذه الشخصيات التي تتبنّى القتل طريقة خلاص، لكن سرعان ما تنكشف هشاشتها في الاحتكاك الإنساني اليومي، فتبدو أقرب إلى الأطفال تارة، وأخرى نراها ككائنات شديدة الحساسية.
في المسعى ذاته، اعتمد غوسلان خياراً سينوغرافياً راديكالياً قائماً على استنباط الجماليات من أدق التفاصيل، والتي كان من شأنها تخفيف حجم العنف المقدم على الخشبة بدءاً من الأزياء والديكور والضوء وليس انتهاءً بالموسيقى.
كما اعتمد على حلول بصرية تعكس هذه الحميمية الدفينة في النفس البشرية، فالمشهد المقدم ذاته على الخشبة يتم تصويره وعرضه على شاشات ثلاث (معظم الوقت)، بينها نرى الممثلين يقدّمون مشهدهم والمصوّر يتبعهم طوال الوقت بكاميرته الصغيرة، فكل مشهد، مهما بلغ عنفه أو خصوصيته، محاصر بالكاميرا وبعيون المشاهدين الذين يشعرون بالأمان لأن اللعبة مكشوفة تماماً أمام أنظارهم. هكذا، تبدأ الأسئلة البديهية عن تأثير الصورة ومدى فعاليتها مقابل خطاب الشخصيات وأفعالهم؛ من الأكثر تأثيراً؟
إن ما يعرض على الشاشة عمل سينمائي مكتف بأدواته، إلا أن الحدث الممسرح في قلبه جعله يتجاوز غايته الوظيفية ليصبح السؤال عن الارتباط الوثيق بين الصورة والكلمة، وبين الفعل المسرحي وآلية استقباله، شديد المركزية.
عشر ساعات متواصلة، تحوّل فيها المشهد المقدّم على الخشبة إلى صورة سينمائية ثابتة، وعلى أطرافها الشاشات تنقل التفاصيل التي لا تلقطها عين المشاهد، الذي هو بدوره جزء مما يقدَّم على الخشبة (تظهر أحياناً وجوه المتفرجين على هذه الشاشة). كل ما على الخشبة ينذرنا، في كل لحظة، بكارثة قادمة لا محالة، إلا أن بناء العرض، بصرياً وموسيقياً، ساهم في تأجيل الكارثة المرتقبة إلى زمن آخر، خارج زمان وفضاء العرض.