حين يعرض الفنان السنغالي عصمان صاو أعماله بباريس أو بنيويورك أو البندقية، يكون المعرض حدثًا يتجاوز زواره المليون. هذا النحات الذي بدأ صبيًا يصوغ كائناته من طمي الشطآن، لم يدرس النحت ولا الفنون. حين وطئت قدماه باريس تخلى عن الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بسبب قلة ذات اليد. ففضل أن يمتهن حرفًا عديدة قبل أن يدرس التمريض ويتخصص في الترويض الحركي ليكون أول متخصص في هذا المجال في بلده. وحين بلغ الخمسين قرر التفرغ لشغفه الفني وتكريس كامل وقته في السنغال لكائناته الأسطورية.
كان عمره لا يتجاوز الستين حين التقيته بالرباط لنشارك معًا في لجنة تحكيم مسابقة فنية متوسطية. كان عصمان صاو حينها قد كرس نفسه من عشر سنوات خلت للنحت، وعرض في داكار، ثم بدأ يخط لنفسه أفقًا عالميًا حين دعته "دوكمونتا كاسل" (Documenta Kassel) بألمانيا للعرض سنة 1993 ثم البندقية بمناسبة مائوية بينالي البندقية سنة 1995. بيد أن ما جعل الرجل يحظى بالعالمية كان معرضه في "البون نوف" (Le pont Neuf جسر الفنون بباريس المخصص فقط للراجلين) سنة 1999 الذي قدم فيه 70 منحوتة ومشهدًا نحتيًا، ارتاده أكثر من ثلاثة ملايين زائر. هكذا اعترفت العاصمة الفرنسية بذاك الذي لم تسمح إمكاناته المادية من دخول مدارسها، ووضعته في مصاف نحاتها المميز سيزار، وهكذا أيضًا زاد اعترافها به بعد منحه العديد من الأوسمة، فضلًا عن منحه عضوية في أكاديمية الفنون الجميلة بباريس Académie des Beaux-Arts de Paris باعتباره أول إفريقي يتمكن من هذه الحظوة (2013).
اقــرأ أيضاً
حياة عصمان صاو روائية بكامل معاني الكلمة. فهو سليل عائلة من الأشراف والمحاربين. جدته كانت كذلك وعمه أيضًا. كان المتعلم الأول في هذه السلالة التي عاشت في كنف الإسلام (فقد حفظ القرآن صغيرًا) وكان الأول الذي سيحكي أسطورتها الخالدة. ففي الساحة التي جعل منها ورشته ومختبره، كان يبدع متتاليات من المنحوتات التي يبنيها بمواد وأمزجة لن يكشف عن سرها إلا لاحقًا وبشكل ملغز. وكانت سلسلة "النوبة" المعروضة في "جسر الفنون" اكتشافًا لفنان استطاع بلورة روح الوجود الإفريقي. استعاد الفنان لصالح ذلك التجانس بين السودان الحالي وبين بلده الذي كان يسمى في الماضي بالاسم نفسه. والحقيقة أن المشاهد الحربية التي يحتفي فيها بالمحارب النوبي، لا تكشف فقط عن واقعية المنحوتات، لكن أيضًا عن ذلك الطابع الأسطوري الذي سيضفيه عليها صاو في عدم احترامه للقامة "الطبيعية" للمنحوتات. عظمتها وطابعها الهائل سيجعلان من أعماله قراءة جديدة لأسطورة وحقيقة الإنسان الإفريقي، واستحضارًا لماض لا يزال يخترق كيانه.
أما سلسلة "الزولو" فإنها تحكي، حين كانت جنوب إفريقيا تعيش ولادتها الحقيقية، عن شعب الزولو في جميع أوضاعه وبهاء تراثه. الفنان في نظراته المتباعدة هذه، يبحث في انزلاقاته عن معنى البطولة الأصلي في مظاهره الإفريقية وفي ما وراء إفريقيا. هكذا سوف تقوده حماسته إلى تخصيص سلسلة للهنود الحمر في معركة "ليتل بيغهورن" التي تحالف فيها الهنود الحمر "الشّيين" مع "السِّيّو" سنة 1876 وحققوا فيها انتصارًا على الجيش الأميركي. وكأن عصمان صاو لا يكتفي بتعظيم البطولة الإفريقية لشعوب "الماساي" و"الزلو" وغيرهم، وإنما يجعلها بطولة كونية يضعها في إنسيتها الطبيعية أمام بطولة حروب الطائرات والمجنزرات والقنابل الكيميائية والذرية التي تستخدمها الدول الراهنة ومعها جحافل الإرهاب القاتل.
حين تخلى عصمان صاو عن مهنته المعيشية ظل يحافظ فيها على علاقة مركبة بطريقة العمل. فهو يبني منحوتته كما لو يعيد الحركة لجسد مريض، يتحسسه ويصوغه بدقة المنتبه لهشاشته الوجودية. يشكّل الهيكل الحديدي الذي يغلفه تدريجيًا بمواد وتقنيات ظلّ يحتفظ بأسرارها لمدة طويلة، قبل أن يفصح عن بعضها: "ثمة في البداية نفايات لصاق يتحلل، أمزجه بعشرين مادة تنتهي بمنحي منتجاً دُهنيًا وطيّعًا. وفي أصل البناء هناك شبكة من حديد الإسمنت المسلح، أغلفها بقش من البلاستيك المشمّع أغلفه هو نفسه بثوب من القنب. انطلاقًا من ذلك أشتغل على النتوءات العضلية. وأغلف في ما بعد هذا المجموع في قماش أغطيه بالطمي. لكم الطمي ليس ضروريًا. فأنا أستعمله فقط لالتقاط النور حين يكون كثير الملاسة".
اقــرأ أيضاً
ثمة في هذه التجربة الاستثنائية كثير من المرارة، وأكثر من الحنين والعنف في الذاكرة. فالإفريقي حين يمسك بمخيلته ذاكرته المشتركة مع كل الشعوب الأخرى، يستلها من بين أيدي الإثنوغرافي والمستعمر ووسائل تصويره. إنه يبنيها لا كـ"كراكيز"، وإنما باعتبارها كائنات تطفح بالحياة، وتعانق السماء. جمال العنف الرمزي هذا يبني عالمًا لم يهزمه التاريخ، ولم تطاوله يد الزمن. إنها نظرة من الداخل تنفض عن الزمن طابعه الكوني لتجعله وليد أسطورة الحياة. بل هي أوديسا إفريقيا نعيشها على يد هذا الإفريقي الذي اغترب عشرين عامًا، واستطاع فرض نظرته على الآخر، ليحررها بطريقته الخاصة من استشراق تصوير الإفريقي. صحيح أن عصمان صاو ابن فرنسا وأعماله تجاوزت "سعرها" نصف المليون يورو، لكن هذا لم يمنعه أن يكون ذلك الفنان الذي يعيش مفارقاته بالشكل الذي يمليه عليه زمنه الداخلي. فلقد استطاع أن يكون حكواتي وساحر إفريقيا الذي يحبل بالحكايات الأسطورية ويجسدها بشكل باهر.
علينا ألا نغترّ كثيرا بأوهام الزنوجة والفن الإفريقي (والعربي) الطاهر من كل عدوى للفن الغربي أو العالمي. فالوقت ليس للهويات المنغلقة لأنها تجترّ وهم الماضي. فبينالي داكار الذي صار ملتقى رئيسيًا في إفريقيا، كاد يغوص في أزمة قاتلة لولا تدخل سيمون نجمي في الدوة الحالية كي يمنحه نفسًا جديدًا، جعله يولد من جديد من حضن الموت. والمستقبل سيكون للبينالي لا لمنعشه حتمًا. بهذا المعنى تكمن مفارقة عصمان صاو وقوته في الآن نفسه، في أنه استطاع، في صوغه لمايكل أنجلو، أو أوغست رودان وغيرهما، أن يجعل من النظرة الإفريقية، نظرة كونية تغذي أفق الفن العالمي. ففي حكاياته لا نراه يستعيد فقط ذاكرته الشخصية وإنما أيضًا، معها، ذاكرة الإنسان باعتباره رمزًا للكينونة. إنه يخلق أساطير حية تنبت وتترعرع في عيوننا كما لو أنها الأسطورة التي نرغب في أن تؤسس أفقنا.
أما سلسلة "الزولو" فإنها تحكي، حين كانت جنوب إفريقيا تعيش ولادتها الحقيقية، عن شعب الزولو في جميع أوضاعه وبهاء تراثه. الفنان في نظراته المتباعدة هذه، يبحث في انزلاقاته عن معنى البطولة الأصلي في مظاهره الإفريقية وفي ما وراء إفريقيا. هكذا سوف تقوده حماسته إلى تخصيص سلسلة للهنود الحمر في معركة "ليتل بيغهورن" التي تحالف فيها الهنود الحمر "الشّيين" مع "السِّيّو" سنة 1876 وحققوا فيها انتصارًا على الجيش الأميركي. وكأن عصمان صاو لا يكتفي بتعظيم البطولة الإفريقية لشعوب "الماساي" و"الزلو" وغيرهم، وإنما يجعلها بطولة كونية يضعها في إنسيتها الطبيعية أمام بطولة حروب الطائرات والمجنزرات والقنابل الكيميائية والذرية التي تستخدمها الدول الراهنة ومعها جحافل الإرهاب القاتل.
حين تخلى عصمان صاو عن مهنته المعيشية ظل يحافظ فيها على علاقة مركبة بطريقة العمل. فهو يبني منحوتته كما لو يعيد الحركة لجسد مريض، يتحسسه ويصوغه بدقة المنتبه لهشاشته الوجودية. يشكّل الهيكل الحديدي الذي يغلفه تدريجيًا بمواد وتقنيات ظلّ يحتفظ بأسرارها لمدة طويلة، قبل أن يفصح عن بعضها: "ثمة في البداية نفايات لصاق يتحلل، أمزجه بعشرين مادة تنتهي بمنحي منتجاً دُهنيًا وطيّعًا. وفي أصل البناء هناك شبكة من حديد الإسمنت المسلح، أغلفها بقش من البلاستيك المشمّع أغلفه هو نفسه بثوب من القنب. انطلاقًا من ذلك أشتغل على النتوءات العضلية. وأغلف في ما بعد هذا المجموع في قماش أغطيه بالطمي. لكم الطمي ليس ضروريًا. فأنا أستعمله فقط لالتقاط النور حين يكون كثير الملاسة".
علينا ألا نغترّ كثيرا بأوهام الزنوجة والفن الإفريقي (والعربي) الطاهر من كل عدوى للفن الغربي أو العالمي. فالوقت ليس للهويات المنغلقة لأنها تجترّ وهم الماضي. فبينالي داكار الذي صار ملتقى رئيسيًا في إفريقيا، كاد يغوص في أزمة قاتلة لولا تدخل سيمون نجمي في الدوة الحالية كي يمنحه نفسًا جديدًا، جعله يولد من جديد من حضن الموت. والمستقبل سيكون للبينالي لا لمنعشه حتمًا. بهذا المعنى تكمن مفارقة عصمان صاو وقوته في الآن نفسه، في أنه استطاع، في صوغه لمايكل أنجلو، أو أوغست رودان وغيرهما، أن يجعل من النظرة الإفريقية، نظرة كونية تغذي أفق الفن العالمي. ففي حكاياته لا نراه يستعيد فقط ذاكرته الشخصية وإنما أيضًا، معها، ذاكرة الإنسان باعتباره رمزًا للكينونة. إنه يخلق أساطير حية تنبت وتترعرع في عيوننا كما لو أنها الأسطورة التي نرغب في أن تؤسس أفقنا.