ليس غريبًا ولا عجيبًا أن تكون بغداد المكان - الجوهرة في واحدة من روائع الأدب الإنساني : ألف ليلة وليلة. تلك الحكايات التي تقوم على الغريب والعجيب، المصادفات والمفارقات، وتسلسل ذلك كله، كي يفضي إلى نهاية الحكاية التي تحمل عبرة (أو أمثولة) لا تكفّ عن الإشعاع، ممتلئة بالمعنى. وقد يجوزاختصارها بمثلٍ سائرٍ أو ببيتٍ من الشعر، تسمّيه العرب : بيت القصيد.
لا مناسبة خاصة لزيارة بغداد أو أهلها، إذ هما يجيئان عفو الخاطر، هما في المشهد باستمرار، ويكفي أحيانًا أن يُنشر كتاب، ويحظى بمراجعات صحافية، حتى تنفتح بلاد "ألف ليلة وليلة"، بكل ما فيها حاليًا، وخصوصًا النتائج الكارثية لعمل العقود الأخيرة. فللمرء أن يختار النظر إلى الثاني من شهر آب / أغسطس عام 1990، أو له أن يختار السادس عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1991، أو يميل إلى التاسع من شهر أبريل/ نيسان عام 2003، أو لعله يريد الذهاب إلى ما قبل عام 1990. لكن تلك التواريخ الثلاثة تحديدًا، ترنّ في البال كلّما جاء خبر من "أرض السواد" أو عنها. فهي تواريخ مليئة بالغريب والعجيب، المصادفات والمفارقات، ولعلها بطريقة ما تنضم إلى "الليالي".
التاريخ الأخير بينها، أي التاسع من أبريل / نيسان، يُمكن روايته بطريقة "رسمية"؛ دخل الأميركيون المحتلون، (بلبوس محررين)، والمشهد الشهير يُنقل على الهواء مباشرة، فالكاميرات جُهزت لهذا الغرض، عشرات العراقيين في ساحة الفردوس، يحاولون إسقاط تمثال صدام حسين. فشلوا، فساعدتهم الدبابة الأميركية، وسقط التمثال. ثمة مفارقات لا تخفى في الرواية "الرسمية"، إلا أن أصل الحكاية حافلٌ بها أيضًا.
فتمثال صدام حسين الشهير هذا، وُضع في الساحة عام 1981، وغيّر اسمها من ساحة "الجندي المجهول" إلى ساحة "الفردوس". اسم الساحة الأوّل مستمد من نصبٍ شهيرٍ صممه المعماري العراقي، رفعت الجادرجي، عام 1959 تخليدًا للجنود الذين ضحوا من أجل الوطن، لكن صدام أراد وضع نفسه في الساحة ونقل اسمها من حيز الموت تضحيةً إلى حيز الجنة، فهدم نصب المعماري الجادرجي، ونصب نفسه في الساحة.
ولو تتبع المرء حياة هذا المعماري الاستثنائي، لوجد فيها نصيبًا لا بأس به من المفارقات؛ فصدام حسين هو الذي أمر بإطلاق سراح الجادرجي بعدما أمضى عشرين شهرًا في السجن، نتيجة تلفيق تهم غير مقنعة له (يبرع أهل الساسة الخبثاء في نسجها عادة)، كان ذلك إبان حكم أحمد حسن البكر، حيث أقام المهندس المعماري في زنزانة مدة خمسة شهور، قبل أن ينتقل إلى سجن "أبو غريب" الذي طبقت شهرة صور العراقيين المعذبين فيه، على يد المحتل، الآفاق كلّها.
وقبل أن يغدو الجادرجي معماريًا لامعًا طبقت شهرته أيضًا الآفاق كلّها، أراد دراسة هندسة الكهرباء في بريطانيا. إلا أن المصادفة أدّت دورها، إذ إن صديقًا له، هو نسيم داوود، الذي ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية، سأله :"لكن لماذا؟ وأنت الذي تعرف الكثير عن الفن والموسيقى؟" فأجاب :"أنا لا أعزف على أية آلة موسيقية، ولا أجيد الشعر، ولا أستطيع الغناء، فماذا أفعل؟"، فأجاب نسيم من فوره: "لماذا لا تدرس هندسة العمارة إذن؟"، فأجاب رفعت :"آه، هذا هو".
ويمكن للمرء أن يسترسل بسرد المصادفات والمفارقات في حياة الجادرجي وفي مسيرته المهنية والفكرية. لكن ثمة ذلك الجانب الاستثنائي في شخصيته، الجانب الإنساني الذي تجلّى في كتابين : "جدار بين ظلمتين" (الذي كتبه مع زوجته بلقيس شرارة) عن تجربة سجنه، والكتاب الثاني "صورة أب"، عن أبيه رجل السياسة، كامل الجادرجي، مؤسس ورئيس الحزب الوطني الديمقراطي، الذي دوّن تجربته تلك في "مذكرات كامل الجادرجي". من الصحيح أن الكتابين يمكن عدّهما نوعًا من السيرة، إلا أن رغبة المعماري في تقاسم تلك اللحظات من حياته تارة مع زوجته وتارة أخرى مع أبيه، تنمّ عن مفارقة أخرى، إذ تشف تلك الكتابة عن مزيج فريد، فالأصل أن السيرة نزهة الأنا في نفسها، إلا أن خيار المعماري بالشراكة بين أناه وأنا زوجه وأنا أبيه، يخلخل الحدود بين التواضع والثقة بالنفس، خاصّة أنه من النادر أن يكون المرء متميزًا واستثنائيًا ويجيء ابنه من بعده متميزًا واستثنائيًا، لكنّ رفعت المعماري وأباه السياسي كانا كذلك، على العكس تمامًا من المعماري الكبير أيضًا محمد مكية، إذ إن ابنه كنعان الذي "اتجه إلى السياسة" و"الكتابة" (والاعتذار أيضًا، للمفارقة)، استثنائيٌ في إثارة الغضب والسخط لأسباب كثيرة، على الأقل في ما يخص عمله في مكتبة أبيه، بما أن المقارنة اتسقت على هذا النحو بينه وبين الجادرجي.
رفعت الجادرجي في القلب، ولا يوجد أي سبب مثلًا كي يعتذر من العراقيين، خِلافًا لمكية الذي "خط" "اعتذارًا" مؤخرًا.