المسار المهنيّ للمخرجة الفلسطينية مي المصري حافلٌ بعناوين وثائقية تتعاون مع زوجها اللبناني جان شمعون (1944) على إخراجها، والمضامين العامة ثابتة في قراءتها أحوال البيئتين اللبنانية والفلسطينية المتداخلتين إحداهما بالأخرى، في لبنان وفلسطين المحتلّة معاً. لكن الرغبة في الروائيّ الطويل تُلحّ عليها منذ أعوام، والسعي إلى إنجاز فيلم منتمٍ إلى هذا الشكل السينمائي هاجسٌ يمزج الفني بالبصري والجمالي، ويتوق إلى اختبار سينمائي يتمثّل، حالياً، بـ "3000 ليلة"، المتجوّل في مهرجانات دولية مختلفة، والمُشارك أخيراً في "مسابقة المهر الطويل" في "مهرجان دبي السينمائي الدولي" بدورته الـ 12 (9 ـ 16 ديسمبر/كانون الأول 2015).
مشروع ثقافي سينمائي
يُعتَبر "3000 ليلة" أول خطوة مهنية في الاتّجاه هذا، وأول عمل تنفرد مي المصري بتحقيقه وحدها، بعد إصابة جان شمعون ـ منذ أعوام قليلة ـ بعارض صحي يُلزمه البقاء في المنزل. والفيلم، إذ يحمل في ذاته هاتين المسألتين، يستكمل المشروع الإنساني ـ الثقافي ـ الفني للثنائي المصري ـ شمعون، بدخوله عالم الأسر الفلسطيني لنساء يواجهن أحد أقسى التحدّيات اليومية، المتمثّل بإخضاعهنّ لنظام تسلّطي قمعي إسرائيلي مزدوج: أول معقودٌ على الإدارة العسكرية ـ الأمنية للاحتلال الإسرائيلي وعلى كيفية تعاملها مع الفلسطينيّ؛ وثانٍ متعلّق بسجينات إسرائيليات يستكملن التسلّط العنفيّ على الفلسطينيات داخل السجن نفسه.
على الرغم من كونه أول عمل سينمائي متكامل تصنعه وحدها، فإن "3000 ليلة" ينضمّ إلى العالم الأثير للزوجين السينمائيين، اللذين يُطلقان مساره الفني بدءاً من منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، بعد عودة المصري من الولايات المتحدة الأميركية إلى بيروت إثر دراسة أكاديمية سينمائية في سان فرانسيسكو. عالم يجعل الصورة الوثائقية انعكاساً لفداحة الواقع الإنساني
المجبول بالقهر والألم والتوق إلى خلاص والعيش اليومي على التخوم القاسية للمواجهة، ومرآة توثيقية لا تكتفي بسرد مقتطفات من المسار الفردي ـ الجماعي للفلسطينيين واللبنانيين، بل تحصّن الذاكرة من خطر الاندثار والنسيان. لذا، فإن "3000 ليلة" ـ وإنْ يتّخذ من مفردات الصنيع الروائي الطويل ركائز درامية وجمالية لتحقيق فيلم سينمائي ـ يُشكّل امتداداً طبيعياً للعالم الإنساني هذا، ويتوغّل في أعماق الصراع القائم بين طرفين، ويكشف جوانب مختلفة في الذات الفلسطينية، بعلاقتها بنفسها داخل زنازين البؤس والاعتداء المادي والقمع المعنوي أولاً، وبعلاقتها بمحيطها الفلسطيني ثانياً، وبمقارعتها عدوّاً يُطاردها إلى داخل الزنزانة، من دون أن يتوصّل إلى امتلاكها وإخضاعها لنزواته الإجرامية، ثالثاً.
الاختبار المديد في صناعة الفيلم الوثائقي يُساهم في تفعيل التواصل المباشر لميّ المصري مع الناس وتفاصيل عيشهم اليومي، ويمنحها إمكانية سبر الأغوار الحقيقية لكل ما يفعلونه من أجل حياةٍ يريدونها أفضل، لكنهم لا يستسلمون ـ سريعاً ـ إلى الخراب، وإن تُتعبهم مقاومة المهانة والخيبات. وإذْ تبدو الأفلام الوثائقية العديدة السابقة شهادات معنية بالدفاع عن الحق الإنساني للفلسطيني واللبناني، فإن "3000 ليلة" يُضيف جماليات بصرية على المادة نفسها، عبر استخدام جميل ومؤثّر وحيوي للكاميرا الروائية، وعبر إخراج النصّ السينمائي من المنحى الوثائقي إلى الأدوات الروائيّة.
إقرأ أيضا: جدران الجزائر لتفريغ المكبوت
عالم السجن
لن يخرج "3000 ليلة" عن المعالم الأساسية للأفلام التي تدور أحداثها داخل السجون، سواء تلك المتعلّقة بجرائم متنوّعة، أو المرتبطة بنضالات سياسية مختلفة. ذلك أن الفيلم يستند إلى المشترك بينه وبينها، على مستوى الشكل وأساليب المواجهة والصدامات التي تحصل داخل السجون لألف سبب وسبب. لكن المضمون مختلفٌ كلّياً، إذ يستند إلى فعل المقاومة السلمية أساليب القهر والتسلّط من أجل حقّ طبيعي وأساسي للحياة الفلسطينية. مي المصري تضع الكاميرا في الزوايا المختلفة لهذا العالم المنغلق على نفسه، كي تتابع حيوية التفاصيل الجانبية بالحماسة السينمائية نفسها التي تروي فيها متن الحكاية الأصلية للسيناريو: مُدرِّسة تُدعى ليال (ميساء عبد الهادي) تُتّهم بمساعدة شاب فلسطيني مطلوب من الأمن الإسرائيلي لمشاركته بـ "اعتداء" على حاجز عسكريّ، فتُزجّ بالسجن، ويُحكم عليها بالبقاء فيه 8 أعوام. ولأن المُدرِّسة ترفض "الاعتراف" بكذبة أن الثائر "يُجبرها" على مساعدته (لأن هذا لم يحصل حقيقةً)، تجد نفسها في سجن يضمّ إسرائيليات وفلسطينيات في نابلس عام 1980. محاميتها وزوجها يحثّانها على الكذب لتنجو بنفسها من خطر الانزلاق في شقاء العيش اليومي داخل السجن، خصوصاً بعد اكتشاف حملها. غير أن التزامها الصدق في سرد الحكاية يحيلها إلى تجربة الصدام الدائم مع محيطَين يتشابهان برفضهما إياها بدايةً، قبل أن يفتح المحيط الفلسطيني أبوابه لها، بينما يستمر الصراع بينها وبين المحيط الإسرائيلي.
يوميات ترويها مي المصري بلغة سينمائية تميل، أحياناً، إلى الصمت في تصوير لحظات عديدة وتفاصيل مختلفة. صمت يضع الكاميرا في مقابل وجه أو حركة يد أو تعبير ما في العينين والنظرة. وهو صمت مشغول بحرفية سينمائية مؤثّرة، إذ يغيب كل شيء آخر من أجل تبيان الملامح الجميلة للشخصيات والأمكنة والعلاقات والتهيؤات والمواجهات. الجمال الخارجي جزء أساسي تكشفه الكاميرا كمحاولة موفّقة لتفعيل أنماط الاكتشافات الأخرى داخل نفوس الشخصيات وأرواحها، أو عبر ابتكار الممثلات سلوكاً أدائياً قادراً على التعبير بصمت أحياناً، وبحراك جسدي أحياناً أخرى، يستكمل مفاعيل الصمت في البوح الذاتي والجماعي.
العفوية الأدائية جزء من لعبة التمثيل. والمونتاج المستخدم إضافة بصرية للعديد من المشاهد المتداخلة أو المتصادمة أو المتكاملة، في سياق مشدود البناء السردي ـ الدرامي، ومتين الصُنعة البصرية. تروي نظرات الممثلات وحدها مقتطفات عديدة من السيرة اليومية للمعتقلات، فإذا بالكاميرا السينمائية تستفيد من براعة الأداء كي تُضيف إلى المشهد أو اللقطة أو المناخ العام ما يمنح الفيلم قوّة درامية تحيل القول إلى متتاليات تعلو وتهبط في سردها، وتتجوّل في أروقة السجن أو مساحاته المفتوحة على خارجٍ لن يظهر واضحاً أبداً على الشاشة الكبيرة، فإذا بالمتتاليات المُصوّرة بحرفية إبداعية تبدو كمن ينطق بفصول أخرى من الحكاية.
مسارات درامية
غير أن التكثيف الدرامي ـ المشغول بتقنية مزدوجة بين سلاسة سردية وعمق درامي يُبيّن هوامش عديدة تتحوّل سريعاً إلى أساسيات درامية للحبكة ـ يُصبح عادياً جداً في المتتاليات الأخيرة للفيلم، خصوصاً في المرحلة التالية لإطلاق سراح عدد من المعتقلات الفلسطينيات، إثر
تبادل يتمّ منتصف الثمانينيات الفائتة تقريباً بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ففي المتتاليات الأخيرة تلك، يخضع النصّ والمعالجة الدرامية والسرد الحكائي لتسريع في إنهاء الحكاية، كأن شيئاً لم يعد قابلاً للسرد، أو كأن هناك رغبة جامحة في إنهاء الفيلم بأي شكل ممكن. فالتكثيف الدرامي متماسك ومتكامل ومتين البنية في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأولى من عمر ليال وابنها داخل السجن (الفصول الأولى من الفيلم). بينما الفترة المتبقية من حكمها تمرّ سريعةً، وإن تحاول مي المصري اختزالها بلقطات بصرية لم تبلغ مرتبة الثراء البصريّ الموجود في مشاهد ولقطات عديدة في الأجزاء الأولى لـ "3000 ليلة".
مع هذا، فإن امتناع المتن الدرامي العميق عن قوّته البصرية في المشاهد الأخيرة لن يقف حائلاً دون متعة الفرجة، لشدّة ما يحمله الفيلم من ثقل درامي ـ جمالي ـ إنساني مستند إلى جماليات الصورة والمسار الحكائي والأداء التمثيلي لممثلات عديدات يؤدّين أدوار الفلسطينيات والإسرائيليات معاً. حتى المشهد الجامع بين محامية ليال ومديرة السجن، المفتوح على نقاش حول "الصراع" القائم بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يبدو عفوياً ومتحرّراً من رطانة الخطاب الإيديولوجي، لأن السيناريو مكتوبٌ بلغة إنسانية لا تأبه بالسياسيّ المباشر، ولا تنسى الحقوق الفلسطينية المتنوّعة في آن واحد. عفوية المشهد المذكور هذا، المتضمّن أيضاً اختزالاً درامياً مكثّفاً لوجهات نطر متباينة بين الإسرائيليين أنفسهم إزاء السؤال الفلسطيني، هي نفسها عفوية مشاهد عديدة تحتوي على كمّ كبير من المشاعر والمواقف والانفعالات والنظرات الثقافية والسلوكية. الغضب يؤدّي إلى تمرّد على السجّان الإسرائيلي، كما على السجين الإسرائيلي. والحسّ الإنساني الفلسطيني يستكمل حضوره في التعامل مع المأزق الصحي للإسرائيلي من دون تكلفة أو تشاوف أو تصنّع أو نضال (ليال نفسها تساعد سجينة إسرائيلية مُدمنة على المخدّرات، وتنقذها من موت محتم).
الحقّ الفلسطيني حاضرٌ بكثافة درامية، وعفوية التعبير عن كل انفعال أو حالة أو قول أو موقف تمتلك جمالية بوحها، المتضمّن أيضاً عمقاً إنسانياً يكشف حقائق العيش في ظلّ حرب دائمة بين ابن البلد والمحتلّ.
فكرة الفيلم
تُعتقل ليال، المُدرِّسة الفلسطينية، بعد تلفيق تهمة لها، ويُحكم عليها بثمانية أعوام في السجن. يتم نقلها إلى سجن للنساء في نابلس حيث تُعتقل سجينات فلسطينيات بتهم سياسية إلى جانب مجرمات إسرائيليات. تضغط عليها إدارة السجن للتجسّس على رفيقاتها، لكنها ترفض. تضع مولودها في السجن، فيتجدّد إحساسها بمعنى حياتها، لكنها سرعان ما تجد نفسها مضطرة إلى اتّخاذ قرار سيُغيّر حياتها إلى الأبد، عندما تُقرّر السجينات الفلسطينيات الإضراب عن الطعام احتجاجاً على تدهور الأوضاع في السجن.
فريق العمل
سيناريو وإخراج: مي المصري.
إنتاج: مي المصري وسابين صيداوي وشارلوت أوزو.
تصوير: جيل بورت.
مونتاج: ميشيل تيّان.
موسيقى: شريف صحناوي.
تمثيل: ميساء عبد الهادي ونادرة عمران ورائدة أدون وكريم صالح وعبير حداد وهيفاء الآغا وأناهيد فياض وركين سعد وهَنَا شمعون.
(كاتب لبناني)
مشروع ثقافي سينمائي
يُعتَبر "3000 ليلة" أول خطوة مهنية في الاتّجاه هذا، وأول عمل تنفرد مي المصري بتحقيقه وحدها، بعد إصابة جان شمعون ـ منذ أعوام قليلة ـ بعارض صحي يُلزمه البقاء في المنزل. والفيلم، إذ يحمل في ذاته هاتين المسألتين، يستكمل المشروع الإنساني ـ الثقافي ـ الفني للثنائي المصري ـ شمعون، بدخوله عالم الأسر الفلسطيني لنساء يواجهن أحد أقسى التحدّيات اليومية، المتمثّل بإخضاعهنّ لنظام تسلّطي قمعي إسرائيلي مزدوج: أول معقودٌ على الإدارة العسكرية ـ الأمنية للاحتلال الإسرائيلي وعلى كيفية تعاملها مع الفلسطينيّ؛ وثانٍ متعلّق بسجينات إسرائيليات يستكملن التسلّط العنفيّ على الفلسطينيات داخل السجن نفسه.
على الرغم من كونه أول عمل سينمائي متكامل تصنعه وحدها، فإن "3000 ليلة" ينضمّ إلى العالم الأثير للزوجين السينمائيين، اللذين يُطلقان مساره الفني بدءاً من منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، بعد عودة المصري من الولايات المتحدة الأميركية إلى بيروت إثر دراسة أكاديمية سينمائية في سان فرانسيسكو. عالم يجعل الصورة الوثائقية انعكاساً لفداحة الواقع الإنساني
الاختبار المديد في صناعة الفيلم الوثائقي يُساهم في تفعيل التواصل المباشر لميّ المصري مع الناس وتفاصيل عيشهم اليومي، ويمنحها إمكانية سبر الأغوار الحقيقية لكل ما يفعلونه من أجل حياةٍ يريدونها أفضل، لكنهم لا يستسلمون ـ سريعاً ـ إلى الخراب، وإن تُتعبهم مقاومة المهانة والخيبات. وإذْ تبدو الأفلام الوثائقية العديدة السابقة شهادات معنية بالدفاع عن الحق الإنساني للفلسطيني واللبناني، فإن "3000 ليلة" يُضيف جماليات بصرية على المادة نفسها، عبر استخدام جميل ومؤثّر وحيوي للكاميرا الروائية، وعبر إخراج النصّ السينمائي من المنحى الوثائقي إلى الأدوات الروائيّة.
إقرأ أيضا: جدران الجزائر لتفريغ المكبوت
عالم السجن
لن يخرج "3000 ليلة" عن المعالم الأساسية للأفلام التي تدور أحداثها داخل السجون، سواء تلك المتعلّقة بجرائم متنوّعة، أو المرتبطة بنضالات سياسية مختلفة. ذلك أن الفيلم يستند إلى المشترك بينه وبينها، على مستوى الشكل وأساليب المواجهة والصدامات التي تحصل داخل السجون لألف سبب وسبب. لكن المضمون مختلفٌ كلّياً، إذ يستند إلى فعل المقاومة السلمية أساليب القهر والتسلّط من أجل حقّ طبيعي وأساسي للحياة الفلسطينية. مي المصري تضع الكاميرا في الزوايا المختلفة لهذا العالم المنغلق على نفسه، كي تتابع حيوية التفاصيل الجانبية بالحماسة السينمائية نفسها التي تروي فيها متن الحكاية الأصلية للسيناريو: مُدرِّسة تُدعى ليال (ميساء عبد الهادي) تُتّهم بمساعدة شاب فلسطيني مطلوب من الأمن الإسرائيلي لمشاركته بـ "اعتداء" على حاجز عسكريّ، فتُزجّ بالسجن، ويُحكم عليها بالبقاء فيه 8 أعوام. ولأن المُدرِّسة ترفض "الاعتراف" بكذبة أن الثائر "يُجبرها" على مساعدته (لأن هذا لم يحصل حقيقةً)، تجد نفسها في سجن يضمّ إسرائيليات وفلسطينيات في نابلس عام 1980. محاميتها وزوجها يحثّانها على الكذب لتنجو بنفسها من خطر الانزلاق في شقاء العيش اليومي داخل السجن، خصوصاً بعد اكتشاف حملها. غير أن التزامها الصدق في سرد الحكاية يحيلها إلى تجربة الصدام الدائم مع محيطَين يتشابهان برفضهما إياها بدايةً، قبل أن يفتح المحيط الفلسطيني أبوابه لها، بينما يستمر الصراع بينها وبين المحيط الإسرائيلي.
يوميات ترويها مي المصري بلغة سينمائية تميل، أحياناً، إلى الصمت في تصوير لحظات عديدة وتفاصيل مختلفة. صمت يضع الكاميرا في مقابل وجه أو حركة يد أو تعبير ما في العينين والنظرة. وهو صمت مشغول بحرفية سينمائية مؤثّرة، إذ يغيب كل شيء آخر من أجل تبيان الملامح الجميلة للشخصيات والأمكنة والعلاقات والتهيؤات والمواجهات. الجمال الخارجي جزء أساسي تكشفه الكاميرا كمحاولة موفّقة لتفعيل أنماط الاكتشافات الأخرى داخل نفوس الشخصيات وأرواحها، أو عبر ابتكار الممثلات سلوكاً أدائياً قادراً على التعبير بصمت أحياناً، وبحراك جسدي أحياناً أخرى، يستكمل مفاعيل الصمت في البوح الذاتي والجماعي.
العفوية الأدائية جزء من لعبة التمثيل. والمونتاج المستخدم إضافة بصرية للعديد من المشاهد المتداخلة أو المتصادمة أو المتكاملة، في سياق مشدود البناء السردي ـ الدرامي، ومتين الصُنعة البصرية. تروي نظرات الممثلات وحدها مقتطفات عديدة من السيرة اليومية للمعتقلات، فإذا بالكاميرا السينمائية تستفيد من براعة الأداء كي تُضيف إلى المشهد أو اللقطة أو المناخ العام ما يمنح الفيلم قوّة درامية تحيل القول إلى متتاليات تعلو وتهبط في سردها، وتتجوّل في أروقة السجن أو مساحاته المفتوحة على خارجٍ لن يظهر واضحاً أبداً على الشاشة الكبيرة، فإذا بالمتتاليات المُصوّرة بحرفية إبداعية تبدو كمن ينطق بفصول أخرى من الحكاية.
مسارات درامية
غير أن التكثيف الدرامي ـ المشغول بتقنية مزدوجة بين سلاسة سردية وعمق درامي يُبيّن هوامش عديدة تتحوّل سريعاً إلى أساسيات درامية للحبكة ـ يُصبح عادياً جداً في المتتاليات الأخيرة للفيلم، خصوصاً في المرحلة التالية لإطلاق سراح عدد من المعتقلات الفلسطينيات، إثر
مع هذا، فإن امتناع المتن الدرامي العميق عن قوّته البصرية في المشاهد الأخيرة لن يقف حائلاً دون متعة الفرجة، لشدّة ما يحمله الفيلم من ثقل درامي ـ جمالي ـ إنساني مستند إلى جماليات الصورة والمسار الحكائي والأداء التمثيلي لممثلات عديدات يؤدّين أدوار الفلسطينيات والإسرائيليات معاً. حتى المشهد الجامع بين محامية ليال ومديرة السجن، المفتوح على نقاش حول "الصراع" القائم بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يبدو عفوياً ومتحرّراً من رطانة الخطاب الإيديولوجي، لأن السيناريو مكتوبٌ بلغة إنسانية لا تأبه بالسياسيّ المباشر، ولا تنسى الحقوق الفلسطينية المتنوّعة في آن واحد. عفوية المشهد المذكور هذا، المتضمّن أيضاً اختزالاً درامياً مكثّفاً لوجهات نطر متباينة بين الإسرائيليين أنفسهم إزاء السؤال الفلسطيني، هي نفسها عفوية مشاهد عديدة تحتوي على كمّ كبير من المشاعر والمواقف والانفعالات والنظرات الثقافية والسلوكية. الغضب يؤدّي إلى تمرّد على السجّان الإسرائيلي، كما على السجين الإسرائيلي. والحسّ الإنساني الفلسطيني يستكمل حضوره في التعامل مع المأزق الصحي للإسرائيلي من دون تكلفة أو تشاوف أو تصنّع أو نضال (ليال نفسها تساعد سجينة إسرائيلية مُدمنة على المخدّرات، وتنقذها من موت محتم).
الحقّ الفلسطيني حاضرٌ بكثافة درامية، وعفوية التعبير عن كل انفعال أو حالة أو قول أو موقف تمتلك جمالية بوحها، المتضمّن أيضاً عمقاً إنسانياً يكشف حقائق العيش في ظلّ حرب دائمة بين ابن البلد والمحتلّ.
فكرة الفيلم
تُعتقل ليال، المُدرِّسة الفلسطينية، بعد تلفيق تهمة لها، ويُحكم عليها بثمانية أعوام في السجن. يتم نقلها إلى سجن للنساء في نابلس حيث تُعتقل سجينات فلسطينيات بتهم سياسية إلى جانب مجرمات إسرائيليات. تضغط عليها إدارة السجن للتجسّس على رفيقاتها، لكنها ترفض. تضع مولودها في السجن، فيتجدّد إحساسها بمعنى حياتها، لكنها سرعان ما تجد نفسها مضطرة إلى اتّخاذ قرار سيُغيّر حياتها إلى الأبد، عندما تُقرّر السجينات الفلسطينيات الإضراب عن الطعام احتجاجاً على تدهور الأوضاع في السجن.
فريق العمل
سيناريو وإخراج: مي المصري.
إنتاج: مي المصري وسابين صيداوي وشارلوت أوزو.
تصوير: جيل بورت.
مونتاج: ميشيل تيّان.
موسيقى: شريف صحناوي.
تمثيل: ميساء عبد الهادي ونادرة عمران ورائدة أدون وكريم صالح وعبير حداد وهيفاء الآغا وأناهيد فياض وركين سعد وهَنَا شمعون.
(كاتب لبناني)