ودعا مبعوث الأمم المتحدة إلى منطقة الصحراء، هورست كوهلر، في أغسطس/ آب الماضي، كلاً من المغرب والبوليساريو والجزائر وموريتانيا إلى عقد مباحثات في جنيف يومي 5 و6 ديسمبر/ كانون الأوّل، وهي الدعوة الأممية التي استجابت لها الأطراف الأربعة بطرق مختلفة. فقد وافقت الرباط على حضور "المائدة المستديرة" أو "طاولة النقاش" على أساس أن تحضر الجزائر أيضاً بصفتها طرفاً في النزاع وليست مراقباً، وهو ما تتحفظ عليه الجزائر. كما أنّ البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء عن سيادة المملكة، قبلت بالحضور من خلال وفد يتشكل من رئيس ما يسمى "برلمان الجبهة"، خطري الدوه، ومنسق الجبهة مع بعثة "المينورسو" (البعثة الأممية في الصحراء)، أمحمد خداد.
وفي السياق، قال مصدر دبلوماسي مغربي مسؤول، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إنّ "المغرب سيحضر إلى جنيف برغبة ونية إيجابية، بعيداً عن أي تشكيك في نجاح اللقاء، كما صدر عن بعض الأطراف الأخرى" (في إشارة إلى البوليساريو)، مؤكداً أنّ "الرباط لديها تصوّر واضح لحلّ النزاع، ولن تحيد عن مبادرتها الواقعية المتمثّلة في إرساء حكم ذاتي في الصحراء".
مستجدات قبل جنيف
وقبيل عقد لقاء جنيف، ومنذ دعوة كوهلر الأطراف الأربعة إلى هذه المحادثات، عرف المشهد المرتبط بالصحراء مستجدات سياسية مهمة عدة، أوّلها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2440 الخاص بالصحراء الصادر في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وقد ثمّنت الرباط مضمون هذا القرار، واعتبرت أنه جاء ليُحمّل الجزائر المسؤولية في الملف، من خلال دعوتها للحضور إلى محادثات جنيف بصفتها طرفاً، وليست مراقباً رسمياً، ولأنّه قرار دعا البوليساريو إلى الانسحاب من منطقة الكركرات منزوعة السلاح على الحدود المغربية الموريتانية. أما البوليساريو، فقد تحفّظت على القرار، ودعت مجلس الأمن إلى الضغط على المغرب.
المستجد الثاني الذي جاء في "الطريق نحو جنيف"، تمثّل في التقارب الكبير بين المغرب وموريتانيا، عبر تبادل السفراء بين البلدين الجارين، بعدما كانا يمرّان في "أزمة دبلوماسية صامتة" اتسمت بعدم تعيين السفيرين، وكذلك عبر تبادل الرسائل الودية، وأيضاً زيارات مسؤولين كبار بين البلدين.
واتفق الجانبان في لقاءات عالية المستوى على ضرورة التعاون الثنائي في العديد من المجالات، وعلى انعقاد الدورة الثامنة للجنة العليا المشتركة المغربية الموريتانية، وهو ما تم اعتباره نقلة نوعية في علاقات المغرب بجاره الجنوبي، بالنظر إلى التوتر الذي كان سائداً بين الرباط ونواكشوط، تجلى في أكثر من مرة في استقبال الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، لقيادات في جبهة البوليساريو.
هذا التحسّن في علاقات المملكة وموريتانيا قبيل لقاء جنيف، فسّره مراقبون على أنّه رغبة من الرباط في استمالة نواكشوط وكسب ودها، لتقف في صف المغرب خلال مباحثات جنيف، فيما اعتبر آخرون أن لا علاقة لذلك بملف الصحراء، بقدر ما هو نتيجة لسيرورة التحركات الدبلوماسية بين البلدين.
أمّا المستجدّ الثالث الذي كان لافتاً خلال الفترة التي جاءت بعد دعوة الأمم المتحدة أطراف النزاع إلى مباحثات جنيف، فتجسّد في دعوة العاهل المغربي، الملك محمد السادس، الجزائر، إلى حوار ثنائي مباشر، هدفه حلّ الخلافات القائمة بدون قيد أو شرط. وهي الدعوة التي اعتبرها مراقبون بأنها تأتي ضمن دعوات سابقة للمغرب لم يتم التجاوب معها، بينما وجدها آخرون محاولة من الرباط لكسب نقاط لصالحها عند "لقاء جنيف"، في الوقت الذي لم ترد فيه الجزائر رسمياً على الدعوة، واكتفت وزارة الخارجية الجزائرية بالدعوة إلى عقد قمة مغاربية على مستوى وزراء الخارجية.
فرصة أخيرة؟
إلى ذلك، رأى الدكتور عبد الرحيم المنار أسليمي، مدير "المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني"، أنّ "لقاء جنيف سيكون فرصة أخيرة لإحداث تحوّل في ملف الصحراء"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "هذا يظهر من خلال الأعمال التحضيرية السابقة المتعلّقة بالتصويت على مضامين قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2440 وفي تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، ومبعوثه الخاص في ملف الصحراء".
وأوضح أسليمي أنّ "الأمر يتعلّق بفرصة أخيرة، لأنّ السيناريو الذي قد يكون في حال فشل لقاء جنيف في إرساء قاعدة مفاوضات مباشرة بين المغرب والجزائر في نزاع الصحراء، سيجعل النزاع مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك سيناريو حرب إقليمية".
وتابع الخبير أنّ "الفرصة التي يتيحها لقاء جنيف ليست في بناء مفاوضات مستقبلية بين المغرب والبوليساريو، وإنّما في وضع قواعد مفاوضات بين المغرب والجزائر، وهنا تكمن صعوبة المباحثات، لأن الجزائر أرسلت إشارات إلى كونها ما زالت طرفاً مراقباً وليست طرفاً مفاوضاً، وهي المسألة التي يرفضها المغرب".
ولفت أسليمي إلى صعوبة ثانية "تتمثّل في كون كل المقتضيات التي أشار إليها القرار 2440، الذي غيّر صفة الجزائر من مراقب إلى طرف مباشر، بما فيها تمديد مهمة القوات الأممية في الصحراء، تتوقّف على نتائج لقاء جنيف الذي إمّا أن يرسم ملامح مفاوضات مقبلة بين الجزائر والمغرب، أو يفتح النزاع نحو مخاطر من شأنها المسّ بالاستقرار في شمال أفريقيا، خصوصاً أنّ الصراع الدولي على هندسة المناطق الحيوية وصل إلى هذه المنطقة".
وذهب أسليمي إلى أنّ ما سماه "التغلغل الروسي في المؤسسة العسكرية الجزائرية والتخوف الأميركي من وصول روسيا إلى منطقة المحيط الأطلسي، والدور الفرنسي الذي يعتبر الجزائر والمغرب عمقاً استراتيجياً حيوياً، كلها عوامل بات لها تأثير على نزاع الصحراء"، مضيفاً "هي عوامل ستحدد مسار لقاء جنيف الذي تبدو فرص نجاحه ضعيفة في حال تشبّثت الجزائر بمواقفها السابقة نفسها، وعدم قدرة كوهلر على إعادة هندسة مسار مستقبلي لمفاوضات تكون بين المغرب والجزائر دون غيرهما".
سيناريوهات اللقاء
من جهته، قال الدكتور محمد الزهراوي، الأستاذ في جامعة مراكش، إنه بالنظر إلى السياق الذي يأتي فيه لقاء جنيف، خصوصاً قرار مجلس الأمن الأخير، وحرص الولايات المتحدة الأميركية على تقليص الولاية الانتدابية لبعثة "المينورسو" لمدة ستة أشهر للضغط على الأطراف المعنية بالنزاع، بالإضافة إلى حضور كل من الجزائر وموريتانيا، فإنّ اللقاء قد يشكّل مناسبة لجسّ النبض من طرف المبعوث الأممي، وتحديد الأرضية التي يمكن اعتمادها كمنطلق لإحياء مسار التفاوض.
واستعرض الزهراوي ثلاثة سيناريوهات منتظرة من لقاء جنيف، عبر استحضار المسار السابق للمفاوضات، وانطلاقاً من مواقف الأطراف، والعوامل المتحكّمة في هذا اللقاء: السيناريو الأوّل، وفق المتحدّث، هو أنّ هذا اللقاء قد يكون تكراراً للقاءات السابقة نفسها التي لم تفضِ إلى أي نتيجة، خصوصاً في ظلّ تباعد المواقف وتناقضها، لا سيما أنّ المغرب يشترط التفاوض مع الطرف الرئيسي في هذا النزاع، أي الجزائر.
أمّا السيناريو الثاني، وفق الزهراوي، فيتمثّل في أنّ اعتماد "طاولة مستديرة" من طرف المبعوث الأممي في هذا اللقاء بغية جمع الأطراف كافة، قد يساهم في استبيان حقيقة مواقف الجميع، مما يساعد على وضع أرضية جديدة لإحياء مسار التفاوض. وبالتالي، فهذا اللقاء يعتبر مناسبة لوضع تصوّر وطرح مقترحات جديدة من طرف القوى المؤثرة؛ أي الولايات المتحدة الأميركية.
السيناريو الثالث، وفق المحلّل نفسه، هو أنّه بما أنّ لقاء جنيف يأتي نتيجة ضغط أميركي، خصوصاً على المغرب، فإنّ فشل المبعوث الأممي في تقريب وجهات النظر وإقناع الأطراف الأخرى بطرح مقترحات واقعية ومقبولة تتجاوز الشعارات الطوباوية، قد يشكّل ذريعة بالنسبة للمملكة لرفض الانخراط في أي مسار تفاوضي مستقبلاً، ما لم تتحقّق بعض الاشتراطات الموضوعية وتحديد الأطراف الحقيقية المؤثرة في النزاع.
مشاركة موريتانيا والجزائر
وعدا مواقف المغرب والبوليساريو، التي سيتمسك بها كل طرف عند الاجتماع في جنيف، فإنّ الأنظار تتجه نحو مواقف كل من موريتانيا والجزائر، خصوصاً هذه الأخيرة التي تصرّ على أنها طرف مراقب بصفتها جاراً للطرفين الرئيسيين في نزاع الصحراء، بينما يتشبّث المغرب بأن الجزائر طرف رئيسي في الملف، لكونها تحتضن جبهة البوليساريو على أراضيها في مخيمات تندوف، فضلاً عن مساعدتها للجبهة سياسياً وعسكرياً.
وفي هذا الإطار، قال الخبير في ملف الصحراء، الدكتور عبد الفتاح الفاتحي، إنّ "صعوبة البدايات ستكون واضحة خلال مفاوضات جنيف، لا سيما عند تدقيق طبيعة مشاركة الجزائر في المباحثات حول النزاع، إن كانت مشاركة بصفتها مراقباً رسمياً لمسار السلام، أو بصفتها طرفاً رئيسياً في النزاع". وأوضح الفاتحي أنّ "المشاركة الموريتانية لا يختلف حولها اثنان، لالتزام نواكشوط التاريخي بالحياد الإيجابي من النزاع، وهي واضحة بشأن هذا الاختيار، لكن بخصوص الجزائر، فإنّ موقفها يشوبه الكثير من الغموض، فهي تؤكّد أنّها غير معنية بنزاع الصحراء، لكنها تستطرد في موقفها باشتراط إيجاد تسوية على أساس تقرير المصير بمعنى استقلال الصحراء".
وتوقّع الخبير أن تعرف مفاوضات جنيف "الكثير من التحديات حول الأسس المحورية لنجاح المباحثات، وكذلك بالنسبة لرفض الجزائر التطبيع مع المغرب، رغم مرور فترة زمنية على تجديد العاهل المغربي دعوته إلى تشكيل آلية سياسية مشتركة لنبذ الخلافات العالقة بين البلدين الجارين". وخلص الفاتحي إلى أنّ "الفشل في إيجاد تفاهمات عملية بشأن قضايا خلافية بينية حدودية، يؤشر بشكل حاسم إلى صعوبة التوافق بشأن ما يتيح انطلاق مفاوضات بناءة في جنيف حول نزاع الصحراء وتحريك المفاوضات المجمدة".
نزاع الصحراء في أسطر
يعدّ نزاع الصحراء أحد أقدم وأعقد الخلافات الإقليمية في القارة الأفريقية وفي العالم أيضاً، إذ عرف هذا الملف الكثير من المنعطفات والمنعرجات الرئيسية التي أثّرت بشكل كبير على عدم الاتفاق على حلّ نهائي للنزاع، بسبب الحسابات السياسية الخاصة بكل طرف.
ومن أبرز المحطات التاريخية لملف الصحراء تأسيس "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (البوليساريو) في مايو/ أيار عام 1973، ثمّ مطالبة الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1975 بإجراء استفتاء لتقرير مصير الصحراء.
ومن العلامات الفارقة في هذا الملف تنظيم المغرب، بمبادرة من الملك الراحل الحسن الثاني، لـ"المسيرة الخضراء" في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1975، التي شارك فيها أكثر من 350 ألف مغربي، لإجلاء المحتل الإسباني من مناطق في الصحراء.
في 26 يونيو/ حزيران عام 1981، أعلن المغرب قبوله بمبدأ إجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء. وفي 27 فبراير/ شباط عام 1984، اعترفت موريتانيا رسمياً بما يسمى "الجمهورية الصحراوية" لجبهة البوليساريو، لكن في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه انسحبت المملكة من "منظمة الوحدة الأفريقية" احتجاجاً على منحها العضوية لـ"الجمهورية الصحراوية".
ومرّت السنوات من دون إحراز كثير من التقدّم في ملف نزاع الصحراء، ليشكّل عام 2007 منعطفاً حاسماً جديداً من خلال اقتراح الرباط رسمياً مبادرة الحكم الذاتي لأقاليم الصحراء. واعتبرت المبادرة وقتها أقصى سقف للحلّ يمكن أن تقدّمه المملكة. غير أن هذا المقترح رفضته البوليساريو والجزائر، المتمسّكتان بتقرير المصير لما يُدعى "الشعب الصحراوي".
وبالرغم من تغيّر الوجوه التي مرّت على قيادة الأمم المتحدة أو الممثّلين الخاصين للأمين العام في الصحراء، ورغم الأحداث التي عُرفت أخيراً من قبيل طرد المغرب لموظفين من "المينورسو" بسبب أزمة سابقة نشبت بين الرباط والأمم المتحدة، قبل أن يُعيّن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، على رأس الجهاز الأممي، فإنّ نزاع الصحراء بقي بدون تحرّك، والمفاوضات ظلّت مجمّدة منذ أكثر من عشر سنوات، في انتظار ما ستسفر عنه جولة جنيف المرتقبة.