يمكن اعتبار محمد اليازغي أحد الزعامات اليسارية التي طبعت بصمتها على جزء من المسار السياسي والحزبي في المغرب. فقد كان أحد أشرس المعارضين لنظام الملك الراحل، الحسن الثاني، وكان ميالاً بالفطرة إلى الانتفاض والاحتجاج، كما أنه لم يكن يراوغ في مواقفه، بل يفصح عن آرائه السياسية مهما كلفته من ثمن، فتعرض غير مرة للاعتقال والسجن، إلى أن تغيرت الأحوال وشارك في عدد من الحكومات بمناصب وزارية مهمة.
عمل اليازغي، ابن مدينة فاس، (ولد في 28 سبتمبر/أيلول العام 1935)، في المحاماة في العاصمة المغربية الرباط خلال ستينيات القرن الماضي بعد أن تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة بالعاصمة الفرنسية باريس. وشغل أيضاً مناصب مهمة في إعلام الحزب الذي انتسب إليه مبكراً(الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، ثم بعد ذلك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. انخرط اليازغي في العمل الحزبي منذ أن كان عمره لا يتجاوز 16 سنة. وشاءت له الأقدار أن يحتك، وهو لم يبلغ بعد العشرين عاماً، بقيادات تاريخية من طينة المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، إذ ساهم بمعيتهم في الانشقاق عن الحزب الأم، حزب الاستقلال، وإنشاء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في العام 1959.
وفي غمرة العنفوان السياسي للشباب اليساري بالمغرب خلال تلك الحقبة من الزمن، دافع اليازغي، إلى جانب قامات يسارية كبيرة، مثل بن بركة، عن تحول حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حتى يتميز بهويته اليسارية الاشتراكية. وكانت تلك الانطلاقة الحقيقية لليازغي في عالم السياسة والصراعات الإيديولوجية والحزبية داخل مغرب، كان وقتها يموج بالاضطرابات، ولم تكن سفينته قد رست بعد على شاطئ الأمان. فتدرج الشاب اليازغي في عدة مسؤوليات حزبية، منها منصب عضو في المجلس الوطني للحزب، الذي مكث فيه قرابة عقدين من الزمن، ثم صار عضواً في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي منذ أكثر من 40 سنة. وتجرع اليازغي مرارة فقدان الحرية من خلال تعرضه للاعتقال والسجن أكثر من مرة، إحداها كانت سنة 1967 في خضم المشاعر الجياشة التي اعترت شعوب العالم العربي بعد نكسة يونيو/حزيران، إذ دعا إلى احتجاجات شعبية، حيث اعتقلته السلطات الأمنية التي أودعته الزنزانة لمدة عام كامل، قبل أن يتعرض أيضاً للاعتقال في 1970. وتعرض اليازغي لمحاولة اغتيال في العام 1973، إذ تسلم طرداً ملغوماً كان يستهدف القضاء عليه، من جهة مجهولة لم تعرف حتى اليوم، لينفجر الطرد وتبتر بعض أصابع يده، بعد أن خضع لعملية جراحية معقدة أنقذت حياته، لكنه لم يستسلم وسار في درب "النضال السياسي" الذي أفضى به إلى السجن مرة أخرى في نفس السنة.
وكأن اليازغي قد ألف السجون والاعتقالات، فلم تمر سوى بضع سنوات على تلك الحادثة، حتى عاد إلى الزنزانة من جديد، وهذه المرة بسبب آرائه الجريئة وقتها في ملف نزاع الصحراء، إذ إنه اعتقل برفقة زعيمه عبد الرحيم بوعبيد، وقيادي آخر هو محمد الحبابي، بعد رفض حزب الاتحاد الاشتراكي فكرة الملك الراحل بشأن إجراء استفتاء في الصحراء. سنوات الاعتقالات والمتابعات والمحن التي جربها اليازغي مع نظام الملك الراحل، الحسن الثاني، تبددت بقبوله منصب وزير مكلف بإعداد التراب الوطني والبيئة والتهيئة العمرانية والسكن في مارس/آذار 1998، أي سنة ونيف قبل وفاة العاهل السابق في يوليو/تموز 1999، وذلك في خضم أجواء "المصالحة" بين نظام الحسن الثاني واليساريين الذين حاربوه عقوداً من الزمن. وعاد اليازغي ليشغل منصب وزير لإعداد التراب الوطني والماء والبيئة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، في الحكومة التي قادها حينئذ، إدريس جطو، الرئيس الحالي للمجلس الأعلى للحسابات، وشارك فيها حزب الاتحاد الاشتراكي إلى جانب 4 أحزاب أخرى، وهي الحكومة التي خلفت حكومة "التناوب التوافقي" برئاسة عبد الرحمن اليوسفي، بعد الانتخابات التشريعية في العام 2002.
وفي أكتوبر/تشرين الأول العام 2007 ارتقى اليازغي السلالم الوزارية ليتم تعيينه، في الحكومة التي كان يقودها في ذلك الوقت، زعيم حزب الاستقلال حينئذ، عباس الفاسي، وزير دولة، وهو أرقى منصب وزاري يصله اليازغي، قبل أن تنتهي مهمته مع وصول رياح الربيع العربي التي جاءت تحت ضغط حراك الشارع بدستور جديد وانتخابات مبكرة فاز فيها حزب العدالة والتنمية، ليفقد اليازغي منصبه كوزير للدولة، ويخلفه في ذات المنصب، الراحل عبد الله باها، رفيق درب الرئيس السابق للحكومة، عبد الإله بنكيران. واختار اليازغي، بعد مساره الحزبي والسياسي الحافل سواء عندما كان يرتدي جبة المعارض الشرس الذي جرب ويلات السجون والملاحقات الأمنية، أو عندما "صالح" النظام السياسي وتبوأ أعلى المناصب الحكومية، وبعد أن ابتعد عن المسؤوليات الرسمية، أن يخلد إلى الراحة في "استراحة محارب". كما أنه نأى بنفسه عن المشاكل المحتقنة حالياً داخل حزب الاتحاد الاشتراكي الذي دافع سنوات من أجل أن يجد له مكان تحت شمس السياسة بالمملكة.