في عودة لافتة إلى العمل السياسي على الساحة البريطانية، دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير مؤيدي بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى "انتفاضة" لوقف "بريكسيت". ورفع بلير، في فعالية عقدت في لندن أمس الجمعة، تحت عنوان "بريطانيا منفتحة"، نبرة التحدي لرئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، باتهامها "بالسعي إلى إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن". وأكد أن "مهمته هي إقناع البريطانيين للانتفاض وتغيير موقفهم بشأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي"، أو ما يعرف بـ"بريكسيت". وحث زعيم حزب العمال السابق المؤيدين لأوروبا على التصدي لـ"مهمة" الحفاظ على بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، من دون تقاعس أو يأس.
ويعتبر المراقبون ظهور بلير، وهجومه القوي والمباشر على سياسات رئيسة الحكومة، وزعيمة حزب المحافظين، تيريزا ماي، بمثابة "التدشين الرسمي" لعودته إلى النشاط السياسي على الساحة البريطانية. ورغم خروجه من رئاسة الحكومة البريطانية في العام 2007، وتراجع دوره في قيادة حزب العمال اليساري المعارض، وانشغاله بمهام سياسية، ونشاطات تجارية واستشارية خارجية، إلا أن توني بلير لم يغب تماماً عن الساحة السياسية البريطانية، وإن كان من وراء ستار، عبر دعم تيار "البليريون" في حزب العمال، ومواجهة خصمه السياسي اللدود اليساري التقليدي، جيرمي كوربين، الذي تمكن من الانتصار على مرشحي تيار بلير في الانتخابات الحزبية التي جرت في العامين الماضيين.
ويزعم بلير، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن عودته إلى المشهد السياسي تأتي بهدف وضع الخطط الاستراتيجية لمواجهة طوفان التيارات الشعبوية، التي حققت فوزاً في الانتخابات الأميركية، وقبل ذلك في استفتاء "بريكسيت"، بعد تراجع تيار "الغالبية الصامتة" عن مركز الوسط، وغياب البرامج السياسية التي تقدم أجوبة صارمة حول قضايا الأجور، والهجرة، ومناهضة النخبوية، والمواقف تجاه العولمة، ما يوفر فرصة حقيقية لصعود الشعبوية الاستبدادية خلال العقد المقبل، ليس في أوروبا فقط، بل في سائر الديمقراطيات الغربية. غير أن منتقدي بلير، وخصومه السياسيين، يرون فيه الشخص "الخطأ" لمواجهة التيارات الشعبوية، على اعتبار أنه يمثل النخبة السياسية التي فقدت ثقة الناخبين، وبالتالي سيكون هدية لأنصار "بريكسيت" والتيارات الشعبوية.
وترى الأوساط السياسية البريطانية أن عودة بلير القوية ترتبط بتحرر الرجل من "كابوس غزو العراق" الذي طارده لسنوات، حتى أصدرت لجنة "السير تشيلكوت"، المُكلفة التحقيق في مشاركة بريطانيا إلى جانب أميركا في غزو العراق في العام 2003، تقريرها من دون الوصول إلى حد اتهام بلير بارتكاب جرائم حرب بسبب قراره غزو العراق في العام 2003. مع أن تقرير اللجنة، الذي نُشر في يوليو/تموز الماضي، وجه انتقادات شديدة لتوني بلير، بوصفه المسؤول الأول عن قرار مشاركة بريطانيا في غزو العراق إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية. وما بين حصوله على "البراءة" من لجنة "تشيلكوت"، وظهوره المليء بالتحدي والثقة أمس، استبق بلير عودته إلى الساحة السياسية البريطانية بالإعلان، في سبتمبر/أيلول الماضي، عن تصفية إمبراطوريته للاستشارات والعلاقات العامة، وتوجيه 80 في المائة من نشاطاته نحو الأعمال الخيرية، وهي الخطوة التي لم تمر على المتشككين في مصداقية الرجل، إذ اعتبر هؤلاء أن تخلي بلير عن الجزء الأكبر من مشاريعه "التجارية" لا بد من أنه يخفي وراءه أجندة ما، ولا سيما أن "ماركة بلير التجارية" تلوثت بعد ما لحق بصاحبها من "تشويه"، حتى بات يُعرف بـ"الكذاب" و"الجشع" و"مستشار الطغاة"، وهو ما دفع الكثير من "زبائنه" إلى إنهاء التعاقدات معه، والابتعاد عنه.
ولا يستبعد المتشككون في نزاهة بلير، أن يكون صاحب نظرية "الطريق الثالث" قد "تحرر" من عقدة العراق، و"احتراق" أوراق مبعوث الرباعية الدولية للشرق الأوسط على الساحة الدولية، وحالة الارتباك في المشهد السياسي البريطاني، كلها عوامل دفعته إلى ركوب موجة "بريكسيت" وتمدد "الشعبوية"، للعودة إلى الساحة السياسية البريطانية، وربما على صهوة حزب جديد، يقوم بالأساس على مناهضة "الخروج من الاتحاد الأوروبي"، ومواجهة "الشعبوية"، ويستقطب أنصار الاتحاد الأوروبي من حزبي المحافظين والأحرار الديمقراطي، و"البليريون" في حزب العمال. وقد لمّح بلير، في أكثر من مناسبة إلى طموحه في هذا الاتجاه، لمنع ما سماه "مأساة" أن تصبح بريطانيا "دولة الحزب الواحد"، كما قال في مقابلة أجراها في يوليو/ تموز الماضي مع مجلة "اسكوير".