تشي المعطيات العسكرية والميدانية بأن مدينة جسر الشغور في شمال غربي سورية في مقدمة أهداف قوات النظام والمليشيات التي تساندها، والجانب الروسي، لإخراج الساحل السوري، الذي يضم كبرى القواعد العسكرية الروسية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، من دائرة الخطر بشكل كامل، وهو ما يفسّر محاولات النظام المتكررة للسيطرة على كامل ريف اللاذقية الشمالي للتقدم باتجاه المدينة التي تعد محطة هامة على الطريق الدولي الذي يربط مدينة حلب بالساحل السوري. ولإدراك الفصائل المسلحة لأهمية مدينة جسر الشغور ومحيطها، سواء في ريف اللاذقية أو ريف إدلب، فإنها تستميت بالدفاع عن قرية الكبانة، التي تحاول قوات النظام اقتحامها منذ أيام، لكونها تقع في أعلى قمة تطل على جسر الشغور، وانتزاع السيطرة عليها يعني فتح الطريق أمام قوات النظام للتوغل أكثر في ريفي إدلب الغربي، والشمالي الغربي.
إلى ذلك، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أمس الأربعاء، أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، اتفقا على ضرورة اجتماع مجموعة عمل بشأن شمال غرب سورية "في أسرع وقت ممكن". وحذر من أنّ هجمات قوات النظام السوري "تضر بفرص تشكيل لجنة برعاية الأمم المتحدة، لوضع مسودة دستور جديد لسورية". وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أعلن إثر محادثات مع بوتين، في سوتشي أول من أمس، أنّ الولايات المتّحدة وروسيا اتّفقتا على سبل للمضي قدماً نحو حلّ سياسي في سورية. وأوضح أنّه أجرى مع بوتين "محادثات بنّاءة للغاية حول السبل الواجب سلوكها في سورية والأمور التي يمكننا القيام بها معاً، حيث لدينا مجموعة من المصالح المشتركة حول كيفية دفع الحلّ السياسي قدماً". وأضاف "هناك العملية السياسية المرتبطة بقرار مجلس الأمن الرقم 2254 والتي تمّ تعليقها، وأعتقد أنّنا نستطيع الآن أن نبدأ العمل معاً على طريقة تكسر هذا الجمود". وقال إنّ واشنطن وموسكو دعمتا إنشاء لجنة مكلّفة صياغة دستور جديد لسورية، معرباً عن أمله في "أن يتمّ على الأقلّ الدفع بهذه العملية قدماً من أجل اتّخاذ الخطوة الأولى بتشكيل هذه اللجنة".
ويتقاسم السيطرة على مدينة جسر الشغور وريفها عدد من الفصائل المحلية من أبناء المنطقة، مثل "الفرقة الساحلية الأولى" و"فيلق الشام"، والتي تسيطر على نقاط استراتيجية على أطراف جسر الشغور، و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) التي تسيطر على المدينة وجزء من ريفها، فيما ينتشر "الحزب التركستاني" المتشدد في المناطق الحدودية مع تركيا في ريف جسر الشغور الشمالي. وارتكب طيران النظام الحربي، أول من أمس الثلاثاء، مجزرة في مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، حيث قُتل عدد من المدنيين وأصيب آخرون، جراء غارات جوية استهدفت سوقاً شعبية وسط المدينة الحدودية مع تركيا. ومن الواضح أن المجزرة تأتي في سياق محاولات النظام إفراغ المدينة وريفها من سكانهما، حيث تدل المعطيات العسكرية والميدانية أن قوات النظام تضع السيطرة على جسر الشغور في مقدمة اهتماماتها في الفترة المقبلة. وهذا ما يفسر تركيز هذه القوات، خلال الأيام القليلة الماضية، لجانب كبير من ثقلها على جبهة ريف اللاذقية الشمالي، خصوصاً محور الكبانة في جبل الأكراد، حيث تعد قرية الكبانة البوابة الرئيسية للوصول إلى مدينة جسر الشغور. ورغم غارات الطائرات الحربية الروسية ومروحيات النظام، والقصف بالصواريخ شديدة الانفجار والبراميل المتفجرة على خطوط المواجهات وتحصينات الفصائل في محور الكبانة، إلا أن قوات النظام فشلت في اقتحام المنطقة بعد 7 محاولات تقدم خلال اليومين الأخيرين، بل إنها تكبدت خسائر جسيمة وفق مصادر إعلامية تابعة إلى "هيئة تحرير الشام" التي تحتفظ بوجود لها في المنطقة.
وتقع الكبانة، وفق مصدر قيادي في "الجيش السوري الحر"، على أعلى قمة مطلة على جسر الشغور وسهل الغاب وبداما والناجية والشغر والجانودية وغيرها من المناطق، وصولاً إلى جبل الزاوية في محافظة إدلب. وبيّن المصدر، لـ"العربي الجديد"، أن "سيطرة قوات النظام عليها (الكبانة) تعني رصد المنطقة نارياً، ومن ثم يصبح تقدّم هذه القوات إلى باقي المناطق أسهل، كونها ستقود المعارك من الأعلى إلى الأسفل، ومن هنا تنبع أهمية الكبانة الكبيرة لدى الثوار والنظام". ومنذ خروجه من مدينة جسر الشغور في العام 2015، لم يتوقف النظام عن ارتكاب المجازر بحق سكان هذه المدينة التي كانت من أوائل المدن السورية إعلاناً للثورة في العام 2011، فهي من المدن السورية "المكلومة" من قبل النظام الذي ارتكب في العام 1980 مجزرة بحق أبنائها قضى فيها العشرات بعد تظاهرات منددة بنظام الأسد الأب إبان حركة رفض شملت العديد من المدن السورية وانتهت في العام 1982 بمجزرة مدينة حماة. وشهدت مدينة جسر الشغور بداية العسكرة في الثورة السورية، حيث اقتحم أبناء المدينة منتصف العام 2011، مفرزة للأمن العسكري التابع للنظام، عقب ارتكاب عناصر هذه المفرزة عمليات قتل بحق متظاهرين في الشهور الأولى من الثورة السورية. وأدى الاقتحام إلى مقتل عدد كبير من عناصر هذه المفرزة، ما استدعى تدخلاً عسكرياً واسع النطاق من قبل النظام، ما أدى إلى مقتل ونزوح عدد كبير من سكانها.
ومدينة جسر الشغور التي تقع على نهر العاصي، تبعد نحو 50 كيلومتراً عن مدينة إدلب، واكتسبت اسمها من الجسر الممتد فوق النهر، وكلمة الشغور محرفة عن الثغور. ودفعت مدينة جسر الشغور من أرواح أبنائها ثمن موقعها الجغرافي الاستراتيجي، فهي مدينة حدودية وبوابة الشمال السوري إلى الساحل السوري، ومحطة مهمة على الطريق الذي يربط حلب، كبرى مدن الشمال، بالساحل. وأشارت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، إلى أن مدينة جسر الشغور مهمة للنظام وللمعارضة السورية المسلحة معاً، موضحة "هي مهمة للمعارضة المسلحة كونها البوابة إلى ريف اللاذقية الشمالي حيث لا تزال تنتشر في قسم من جبل الأكراد، فضلاً عن كونها خط الإمداد الرئيسي إلى منطقة سهل الغاب وريف إدلب الغربي. وتوضح المصادر أن "قوات النظام وروسيا تضغطان من أجل السيطرة على مدينة جسر الشغور لأسباب عديدة، إذ إن انتزاع السيطرة على جسر الشغور يعني تلاشي الخطر على الساحل السوري، معقل النظام البارز، وعلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في ريف اللاذقية التي تتعرض بين وقت وآخر لهجمات من قبل فصائل المعارضة انطلاقاً من ريف اللاذقية وريف جسر الشغور". وأشارت إلى أن النظام يستميت للسيطرة على جسر الشغور لتحقيق نصر إعلامي أمام مؤيديه، مضيفة "جسر الشغور هدف دائم للنظام منذ العام 2015".
وكانت قوات النظام بقيادة العميد سهيل الحسن، الملقب بـ"النمر"، قد منيت بهزيمة مدوية في إبريل/نيسان على يد فصائل المعارضة المسلحة التي سيطرت على المدينة في العام 2015، والذي شهد ترنح النظام، ما استدعى تدخلاً روسياً عسكرياً مباشراً في أواخره للحيلولة دون سقوطه. وخاضت فصائل المعارضة المسلحة اشتباكات مع قوات النظام لمدة عشرة أيام انتهت بتحصن هذه القوات في المستشفى الوطني في المدينة لأكثر من 20 يوماً إلى أن خرجت من المدينة بشكل نهائي. وشهد ريف جسر الشغور معارك كبيرة بين المعارضة المسلحة والنظام، منها الشغر، وخربة الجوز في ريف جسر الشغور الغربي خلال العام 2013. ومدينة جسر الشغور التي كان عدد سكانها في 2011 نحو 50 ألف نسمة، شهدت في الآونة الأخيرة حركة نزوح على وقع المعارك والقصف الجوي، وبسبب التفجير الإرهابي الذي ضرب المدينة أواخر الشهر الماضي، وأدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين. ويوضح الصحافي المقيم في المدينة محمد خضير، لـ"العربي الجديد"، أنه بقي في المدينة نحو ألفي عائلة فقط، مضيفاً "عدد كبير من السكان نزح إلى ريف المدينة، ومناطق قريبة من الحدود السورية التركية".