فتحت زيارة رئيس الحكومة التركية، بن علي يلدريم، إلى بغداد الباب أمام عودة التقارب بين البلدين، خصوصاً بعد إعلان رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، التوصل إلى اتفاق بشأن سحب القوات التركية من معسكر بعشيقة شمال الموصل، فيما واصل ائتلاف "دولة القانون"، الذي يترأسه رئيس الحكومة العراقية السابق، نوري المالكي، محاولاته للتشويش على التقارب، مطالباً بأن يكون الانسحاب من دون قيد أو شرط. في هذا الوقت، تقدمت القوات العراقية داخل الموصل، واقتربت من شطرها إلى جزئين مع وصولها إلى مشارف نهر دجلة، فيما زادت مخاوف أهالي المناطق المحررة من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بعد استبدال شعاراته على الجدران برايات جديدة وأعلام ذات أبعاد طائفية وحزبية ومليشياوية.
وقد حققت القوات العراقية أمس السبت، مكاسب جديدة على الأرض مكنتها من الوصول إلى مناطق تبعد مئات الأمتار عن نهر دجلة، بعد اقتحام القوات العراقية حي الفرقان القريب من النهر الذي يشطر المدينة إلى جزئين. وقال قائد الحملة العسكرية على الموصل، الفريق الركن عبد الأمير رشيد يار الله إن "القوات المشتركة تمكنت من اقتحام حي الفرقان جنوب شرقي الموصل ضمن الساحل الأيسر للمدينة"، موضحاً أنه تمت السيطرة أيضاً على كلية الطب ومستشفى السلام ضمن المنطقة. وأكدت مصادر عسكرية عراقية أن معارك تدور في أحياء الفرقان والمزارع وعلى مشارف حي الضباط، ضمن ما يعرف بمنطقة الجسر الرابع، بدعم أميركي عبر مروحيات "الأباتشي" وطائرات "أف 16". وإن صحت هذه المعلومات، تكون القوات العراقية المشتركة قد وصلت إلى نقطة تقل عن مسافة 300 متر فقط عن ضفة نهر دجلة، و600 متر عن الجسر الرابع وهو أحد الجسور الخمسة على دجلة والتي كانت تربط جانبي الموصل قبل أن تدمرها طائرات التحالف الدولي خلال الأسابيع الماضية. وقال العقيد أحمد الجبوري من قيادة عمليات نينوى: "مع استعادة الحي، تم عزل مسلحي داعش في الأحياء الجنوبية الشرقية مثل دوميز وفلسطين وهو ما سيسهل مهمة القضاء عليهم في الأيام المقبلة".
وفي مقابل انتهاء حقبة "داعش" في الأجزاء الشرقية من الموصل، بعد تحرير مناطق شاسعة من الساحل الأيسر، حيث كانت تنتشر آثار شعارات وأعلام "داعش" لمدة عامين، ذاق خلالهما أهالي الموصل صنوفاً من التعذيب والقتل والتشريد، بقيت مخاوف أهالي المناطق بعد ظهور شعارات جديدة. وما إن سيطرت القوات الأمنية العراقية، والقوات المساندة لها على تلك المناطق، بدأت بإزالة كل معلم وأثر للتنظيم، لتظهر مكانها شعارات مضادّة، تحمل أبعاداً طائفية وحزبية ومليشياوية. وأثارت تلك الشعارات "المقدّسة"، التي لا يجرؤ أحد من الأهالي حتى على الاقتراب منها، رعباً جديداً لديهم، بعد أن وجدوا أنفسهم، ومحافظتهم تنتقل من يد إلى يد أخرى، وتخرج من قبضة إلى قبضة جديدة. ولم يستطع الأهالي، في محاولة لمواجهة هذا الأمر، سوى رفع أعلام العراق وشعارات الوطن بدلاً من تلك الشعارات التي غطّت منازلهم وشوارع مناطقهم. وقال مسؤول محلّي من محافظة نينوى، لـ"العربي الجديد"، إنّ "أهالي الموصل دفعوا الكثير من عمرهم، ومن فلذات أكبادهم، ثمناً للسياسات الحمقاء التي أدت إلى سيطرة تنظيم داعش الإجرامي على الموصل، والذي أمعن في صنوف التعذيب معهم"، مضيفاً أنّ "الأهالي يلعنون تلك الفترة المظلمة والسوداء من حياتهم، والتي كانوا يموتون فيها، في كل يوم، عشرات المرات، خوفاً ورعباً من التنظيم". وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، إنّ "الأهالي انتظروا بلهفة تحرير مناطقهم وإنقاذهم من سيطرة التنظيم المجرم، وقد بدأت فعلاً أيّام التحرير، وساند الأهالي القوات الأمنية بمختلف صنوفها، في القضاء على داعش، وتم تحرير عدد كبير من المناطق"، مشيراً إلى أنّ "عناصر من القوات الأمنية ومليشيات الحشد وموالين له عمدوا إلى محو كل شعارات التنظيم وأعلامه من على جدران المنازل، وكتابة شعارات مضادّة، ونشر الأعلام العراقية"، لكنه استدرك "لكنّهم كتبوا شعارات طائفيّة ووضعوا رايات وأعلاما للأحزاب ولفصائل المليشيات، بدل شعارات التنظيم التي تم محوها، ما أثار قلق وخوف الأهالي مجدداً من أبعاد تلك الشعارات، وما تحمله في طيّاتها من تحريض على العنف الطائفي والثأر، وما إلى ذلك من أبعاد أججت الخوف لدى الأهالي من بداية حقبة جديدة، تتم فيها أعمال تصفية منظّمة تطاول أبناء تلك المناطق، وخصوصاً أنّه يتم حالياً التحقيق في الملفات الأمنية للأهالي. كما أنّ موضوع السيطرة على الأرض بشكل كامل لم يحسم بعد، ومن الواضح أنّ الأهالي لن يكون لهم أي دور في ذلك". من جهته، دعا النائب عن محافظة نينوى، أحمد الجربا، إلى "حسم الملفات الأمنية لأهالي المناطق المحرّرة، والتعامل معهم بإنصاف، وأيضاً حسم ملف حفظ الأمن في تلك المناطق وتسليمه إلى قيادات الشرطة المحلية، وتفريغ القوات الأمنية إلى العمليات القتالية، والتقدّم نحو مركز الموصل". وقال الجربا، خلال حديثه مع "العربي الجديد"، إنّ "ملف المناطق المحرّرة بات مقلقاً جداً، والحكومة لم تتخذ أي قرار بشأنه، في وقت يتطلّب فيه وقفة جادّة من الحكومة وموقفاً حازماً، للسيطرة عليه، عبر تسليمه إلى الشرطة المحلية حصراً من دون غيرها"، رافضاً "تسليم الملف إلى العشائر، أو بقاءه بيد القوات العسكرية". وأوضح أنّ "هذا الملف لا يقل أهميّة عن ملف التقدّم الميداني، إذ إنّه لا يمكن غض الطرف عنه"، داعياً الى "تسليم الملف إلى الشرطة المحلية بعد إعدادها وتجهيزها". وطالب "بإطلاق سراح أربعة آلاف شرطي من أهالي المحافظة من المشمولين بالعفو العام، وضمّهم إلى قطعات الشرطة المحلية، ليكونوا قوة خاصة للإمساك بالأرض، فهم الأقدر من غيرهم والأعرف بتفاصيل تلك المناطق".
بدوره، دعا الخبير الأمني الاستراتيجي، واثق البجّاري، الحكومة إلى "التعامل بمهنية مع ملف المناطق المحرّرة وعدم ترك الحبل على الغارب للجهات العسكرية والمليشيات". وأوضح، البجّاري، لـ"العربي الجديد"، أنّه "من صلب مسؤوليات الحكومة التفكير بحقبة ما بعد داعش، وعدم اعتماد مبدأ الانتقام والثأر والظلم والأخذ بجريرة الغير وكبت الحريّات في المناطق المحرّرة"، مبيناً أنّ "تلك المناطق تحتاج إلى دراسة اجتماعية أمنية، وأن تضبط تصرفات العناصر الأمنية فيها، وتمنع مليشيات الحشد من دخولها، والحؤول دون استفزاز الأهالي وإذلالهم".
في المقابل، طالب ائتلاف "دولة القانون"، الذي يترأسه المالكي، أن يكون "انسحاب القوات التركية من العراق من دون قيد أو شرط". وقال النائب عن الائتلاف، منصور البعيجي، في بيان، إنّه "يتحتّم على العبادي أن يحصل على ضمانات من أنقرة بعدم التدخل مستقبلاً في الشؤون الداخلية العراقية"، مشككاً بـ"نية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان وحكومته في تحسين العلاقات مع العراق، وإنهاء حالة التوتر بين البلدين، والتي أفرزتها التصرفات التركية السلبية تجاه العراق". واعتبر أن "تركيا اليوم أحوج ما تكون إلى العراق، وبكافة المجالات، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية"، مؤكداً أهمية أن "تكون زيارة يلدريم إلى بغداد مهمة لبناء علاقات جديدة بعيدا عن الأطماع".