ولم تنجح كافة الوساطات الإقليمية، من كوبا ومنظمة "الدول الأميركية"، وتلك الدولية، للفاتيكان خصوصاً، في وضع حدٍّ لانزلاق كاراكاس إلى وضع أمني مقلق، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، بل بدا أن لغة العنف أقوى من لغة الحوار.
وكانت الأزمة السياسية في البلاد قد اندلعت إثر فوز المعارضة من يمين الوسط في الانتخابات التشريعية نهاية عام 2015، ما وضع حداً لهيمنة تيار تشافيز. وطالبت المعارضة باستقالة مادورو، وسعت العام الماضي للدفع نحو تنظيم استفتاء يدعو لرحيله، غير أن المحكمة الدستورية العليا في البلاد، ضيّقت السبل القانونية أمام المعارضة، وأطاحت الاستفتاء. كما قضى مادورو على أحلام الاستفتاء بتعيينه طارق العيسمي، أخلص أنصاره، نائباً له. أدت تلك الخطوات إلى مطالبة المعارضة بإجراء انتخابات عامة مبكرة هذا العام، ليتأمّن رحيل مادورو قبل انتهاء ولايته في ديسمبر/ كانون الأول 2018. إلا أن الرئيس الفنزويلي أعلن في خطاب أخير تأييده إجراء انتخابات محلية ولكن على مستوى رؤساء البلديات والأقاليم، لا على المستوى الرئاسي. واتهم المعارضة بتنفيذ "مؤامرة أميركية" عن طريق محاولة انقلاب نفت واشنطن ضلوعها فيه أو علمها به.
مع العلم أن مادورو حاول السيطرة على البرلمان، بفعل قرار من المحكمة العليا في فنزويلا، في 31 مارس/ آذار الماضي، لتجاوز صلاحيات الجمعية الوطنية (البرلمان) التي يسيطر عليها المعارضون. لكن مادورو سرعان ما تراجع، بفعل الضغوط العارمة محلياً ودولياً، تحديداً من حليفته النائبة العامة الفنزويلية، لويزا أورتيغا، التي ندّدت بما سمّته "انتهاكاً للنظام الدستوري".
من جهتها، رأت المعارضة أن "تلك الإجراءات تدفع بالبلاد نحو حكم دكتاتوري ومسار لا رجعة فيه"، ودعت المواطنين إلى تنظيم تظاهرات احتجاجية في جميع المدن، لا سيما العاصمة كاراكاس. وأدت التجمعات المتلاحقة، وازدياد وتيرتها، إلى سقوط نحو 25 قتيلاً.
وقد نصب المحتجون في فنزويلا متاريس بالقمامة وأحواض الاستحمام، وأعاقوا حركة المرور في كاراكاس، يوم الاثنين، ونظموا اعتصامات على امتداد الطرق الرئيسية للضغط من أجل تنفيذ مطالبهم بانتخابات. ومع تأكد مادورو من أن المواجهة بدأت تتخذ مساراً أكثر حدة، استعان بالجيش، معلناً انتشاره في كل أنحاء البلاد. والجيش عنصر مهم في التركيبة الفنزويلية وفي الحياة السياسية هناك في قارة الانقلابات والأنظمة التي تولى العسكر فيها السلطة طويلاً، ومنهم تشافيز نفسه. وعدا عن عديد الجيش الفنزويلي البالغ نحو 165 ألف جندي، فهو يؤدي دوراً سياسياً كبيراً، ذلك لأن 11 وزيراً في الحكومة المؤلفة من 32 وزيراً، هم من العسكريين أو العسكريين السابقين.
وكأن الأزمة الاقتصادية الخانقة لا تكفي في فنزويلا، مع إعلان عاملين بفرع "جنرال موتورز" الأميركية في فنزويلا، أن "الشركة أرسلت رسالة نصية إلى حوالي 2700 عامل، تبلغهم بأنهم لم يعودوا يعملون بالشركة وأنها أودعت مكافأة إنهاء الخدمة في حساباتهم المصرفية".
وسبق أن أمرت محكمة فنزويلية الأسبوع الماضي بمصادرة مصنع فالنسيا التابع للشركة، في حكم أصدرته لصالح اثنين من الموزعين كانا أقاما دعوى قضائية في عام 2000. وأفاد عمال بأنه "قبل إعلان المصادرة، كانت جنرال موتورز تفكك المصنع، الذي لم ينتج سيارة واحدة منذ بداية 2016، بسبب نقص في الأجزاء والقيود الصارمة على العملة". ودفعت الفوضى السياسية في البلاد إلى اتخاذ إسبانيا (مُستعمِرة فنزويلا السابقة) والبرازيل (أكبر دولة في أميركا الجنوبية) موقفاً متطابقاً من الأحداث. فقد شدد كل من رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي والرئيس البرازيلي ميشال تامر، على "ضرورة تخطي الأزمة عبر حل متفق عليه من خلال إعادة الكلمة للشعب الفنزويلي". وجاء ذلك في سياق زيارة قام بها راخوي إلى تامر في البرازيل.
ولا تبدو الحلول قريبة، مع إعلان المعارضة عزمها على تنظيم تظاهرات كبيرة، اليوم الأربعاء، وسط دعوات من قيادييها للمحافظة على سلمية التظاهرات. وهو أمر غير مؤكد، في ظلّ اتهام المعارضة لأنصار مادورو بشنّ اعتداءات ضدها. وفي إطار الدعوات، قال المعارض خوليو بورخيس "أدعو الجميع للنزول إلى الشوارع، حتى ننال دولة ديمقراطية وفقاً لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي تفيدنا جميعاً".
على الرغم من أن تراكمات الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعناد مادورو، دفعت بفنزويلا إلى تلك المرحلة والحديث عن "نهاية قريبة للتيار التشافيزي"، إلا أن الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون أميركا الجنوبية، جان ـ جاك كورلياندسكي، اعتبر أنه "من المبكر الحديث عن نهاية التشافيزية، لأن السياسات الاجتماعية التي وضعها تشافيز أفادت ملايين الفنزويليين". وأضاف أن "المشكلة تكمن في تمويل تلك السياسات الاجتماعية، لا السياسات بحدّ ذاتها".
وحتى جلاء المشهد في فنزويلا، يبقى كلام المتظاهرة المعارضة أماليا دوران، خير دليل على مأساوية الوضع في بلاد دمّرتها ثروتها النفطية بدلاً من نجدتها، إذ تناقلت وسائل إعلام دولية عبارتها: "نعترض الطرق ليفهم مادورو أن عليه الرحيل. خلال عهده نعاني من الجوع ولا أجد حليباً لطفلي البالغ 16 شهراً".