من المتوقع أن تفرز المرحلة المقبلة خارطة نفوذ جديدة في الشمال والشمال الشرقي من سورية، وسط تراجع "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، والمليشيا التابعة له "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، لتنحصر خياراتهم بين الأسوأ والسيئ. فقد دعت "مسد" في بياناتها الصادرة يوم الخميس الماضي، تحت عناوين "اليوم الدولي للمناسبات" و"اليوم العالمي للتضامن مع كوباني (عين العرب)"، للتضامن معها والضغط على تركيا لوقف العمليات العسكرية ضدها، قائلة "ندعو جميع الأحرار حول العالم للتضامن مع قضيتنا ومقاومتنا، كونها البوابة الأولى لمحاربة الإرهاب الذي يهدد الأمن والسلم العالميين، كما ندعو المجتمع الدولي لاتخاذ ما يلزم من مواقف وإجراءات واضحة تجاه التهديدات التركية لشمال سورية وشرقها، والدفع باتجاه التوصل إلى حل سياسي بالاستناد إلى قرار مجلس الأمن 2254 وتشكيل لجان لإعادة صياغة الدستور دون إقصاء أي طرف". وأكدت "على قرار قواتنا العسكرية (قسد) بإيقاف الحملة الأخيرة ضد تنظيم داعش في مناطق دير الزور، ما لم تتوقف الدولة التركية عن هجماتها تجاه الشمال السوري".
من جانبه، قال الرئيس المشترك لـ"مسد" رياض درار، في حديث صحافي حول تعليق عمليات "قسد" ضد "داعش" في منطقة هجين بريف دير الزور، إن "هذا الإعلان – البيان، نوع من التهديد بأن الموقف من الإرهاب يجب أن يكون مشتركاً، فمن يريد أن يعرقلنا في هذا التوجه فهو يساعد الإرهاب، والتصعيد التركي هو بمثابة نفخ الروح في أنفاس داعش المقطوعة. ونحن نرى أن الادعاء التركي بأن سيطرة الأكراد على المنطقة الحدودية تهدد أمنها القومي، هو ادّعاء غير مقبول، فلم يحصل خلال سنوات الأزمة أي تهديد أو استفزاز من قبلنا، وكنا قد أرسلنا نداءات سلام وحسن جوار ولن نتوقف".
وأضاف "الملاحظ أن هذا التصعيد جاء بعد قمة طهران الثلاثية التي شكلت بداية ما سُمّي (حلف الشرق) الموجه نحو الولايات المتحدة، والذي يمكن أن يضم إليه العراق وسورية والمليشيات الموالية لهما". واعتبر أنه "في حال استجابت الولايات المتحدة لهذه الضغوط فسنكون بمفردنا، صحيح، لكننا نعتقد أيضاً أن واشنطن لن تخرج بهذه السهولة، فلديها مخططات للمنطقة يمكن أن تطول وتستمر. مع ذلك نحن لا نلعب على هذا الجانب، بل نسعى إلى تحقيق السلام والأمن في المنطقة، لذا ندعو إلى التفاوض والحل السياسي السلمي وإلى حسن الجوار مع جيران سورية بما فيهم تركيا".
وأشار درار إلى أن "التفاهمات حول منبج واضحة، لكن الجانب التركي يريد المزيد، فتركيا ممتعضة من تلكؤ الولايات المتحدة في اتفاقها حول المنطقة، وتصعيدها نوع من الضغط على الولايات المتحدة لتعيد النظر بشأنها، في رسالة مفادها أن أنقرة لن تتراجع عن تحالفها مع موسكو وطهران. وهو ما سيحرج الولايات المتحدة التي ستكون محاصرة في بادية الشام، ما قد يدفعها لتقديم تنازلات عن شروطها، إما حول الموقف من النظام السوري أو من إيران، وتقدم صفقة لتركيا حول ما تسميه حماية حدودها، وكذلك مشاركتها في إعادة الإعمار".
من جانبهم، اكتفى الأميركيون بالحديث عن سعيهم إلى تهدئة الوضع بين "قسد" والأتراك، في الوقت الذي قال فيه "المرصد السوري لحقوق الإنسان" المعارض، أمس الجمعة، إن "القوات الأميركية تحاول ضبط الموقف، من خلال التوافق مع القوات التركية على إعادة تسيير دوريات مشتركة على الخط الفاصل بين مناطق سيطرة قوات مجلس منبج العسكري ومناطق سيطرة قوات عملية درع الفرات، في القطاع الشمالي الشرقي من ريف حلب". كما أكدت مصادر موثوقة أن "القوات الأميركية عمدت للانتشار على كامل الشريط الحدودي مع تركيا في منطقة ما بين نهري دجلة والفرات، منعاً لأي تحركات تركية باتجاه المنطقة، بالإضافة للانتشار داخل مدينة عين العرب".
من جهته، قال المتحدث باسم "المجلس العسكري لمنبج وريفها" (التابع لقسد) شرفان درويش، عبر صفحته في "فيسبوك"، إنه "بعد إكمال 64 دورية منفصلة ومنسقة، جرى، الخميس، تسيير أول دورية مشتركة بين قوة التحالف والجيش التركي. والدوريات المشتركة تأتي ضمن اتفاقية خارطة الطريق لمدينة منبج بين الجانبين الأميركي والتركي، والدوريات المشتركة تتم على خط الجبهة الشمالية ولن تدخل مدينة منبج. لا داعي لأي قلق لأهلنا في المدينة، لأن الهدف الوحيد من الدوريات هو الأمن والاستقرار".
في غضون ذلك، قُتلت طفلة، أمس الجمعة، متأثرة بجراحها جراء النيران التركية التي استهدفت تل فندر الواقعة بريف مدينة تل أبيض، في ريف الرقة الشمالي، يوم الخميس، والتي استهدفت مناطق عدة في ريف عين العرب، ومناطق تل أبيض الواقعة في الريف الغربي للرقة.
وقال مصدر مطلع معارض في الشمال السوري، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الأتراك يعملون بشكل جدي مع الفصائل المسلحة الموجودة في ريف حلب وإدلب، للتحضير لمعركة ضد قسد في شرق الفرات، وهناك غرفة عمليات خاصة في تركيا لهذه المعركة، وقد تم إبلاغ الفصائل بشكل رسمي بنية تركية لبدء عملية عسكرية في وقت لم يحدد بعد".
وأوضح المصدر أنه لا يعتقد "أن أي عملية عسكرية محتملة لتركيا ستكون معركة شاملة على غرار عملية غصن الزيتون، لأنها ستكون مرتبطة بشكل وثيق بالتفاهمات مع الأميركيين الذين يمتلكون كل أوراق قوات سورية الديمقراطية". ولفت إلى أنه "من المرجح أن تبدأ العملية العسكرية انطلاقاً من منطقة تل أبيض على الحدود السورية التركية، وتتوسع شرقاً بهدف السيطرة على المناطق الحدودية، تحقيقاً لما تطالب به تركيا من تأمين الحدود التركية السورية، والتي تؤمن اليوم صلة تواصل بين قسد وحزب العمال الكردستاني الموجود على الأراضي التركية في الجانب المقابل". وأشار إلى أن "اتفاق إدلب لم ينجز بعد، وبالتالي لم يتم إقرار الوضع بالمحافظة بشكل نهائي، وما زال مصيرها مفتوحاً على كثير من السيناريوهات".
من جانبه، قال المحلل العميد أحمد رحال، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "التصعيد التركي الأخير يعكس نوعاً من التوافق التركي الأميركي في القضايا العالقة بين الطرفين"، مستبعداً أن "يكون القصف التركي مؤشراً لوجود عملية عسكرية كبيرة. كما أن الأميركيين ليسوا بوارد التخلي عن مناطق شمال الفرات وشرقه، لكونها مناطق استراتيجية، تعوّض عما خسروه في العراق، كما أنها مناطق ذات قيمة اقتصادية مهمة جداً لن تتنازل عنها لإيران".
وأعرب عن اعتقاده بأن "هدف العمليات سيكون إبعاد المليشيات الكردية عن الحدود التركية وتشكيل حزام آمن ومستقر، ولا أعتقد أن الأمر سيذهب إلى أكثر من ذلك". وحول منبج قال إن "هناك اتفاقاً حصل في يونيو/ حزيران الماضي حول منبج لتشكيل إدارة مدنية من أهلها لإدارتها، بعدما رفض الأتراك وجود قسد، ورفض الأميركيون وجود الفصائل. والملف جزء من سلة ملفات شائكة بين الطرفين، ويبدو أن هناك حلحلة لهذه السلة، إذ من المرجح أن تبقى قوات التحالف الفرنسية والأميركية وقوة محلية، لكن ليس الحزب الديمقراطي وقواته". ورأى أن "المنطقة مقبلة على رسم خرائط مناطق النفوذ ما بين منطقة نفوذ تركية ومنطقة نفوذ أميركية، وهناك مناطق مشتركة، وكذلك هناك مناطق روسية إيرانية".
من جانبه، ذكر مصدر متابع في دمشق، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الوضع في شرق الفرات معقّد جداً، ففي حين تصعّد تركيا، يطالب الأكراد بالتدخل من قبل النظام لوقف الخطر التركي، ما يذكرنا بسيناريو عفرين، لكن حينها الاتفاق الدولي بين روسيا وتركيا وبمباركة أميركية لم يسمح للقوات النظامية بالتدخل. وقد أرسل النظام بضع عشرات من المقاتلين في المليشيات الموالية لحفظ ماء الوجه، بعدما كان الأكراد قد فقدوا فرصة دخول القوات النظامية وإخراج مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية، والتي كانت تركيا تقبل بها كحل ضامن لأمنها كما تدعي".
وأضاف أنه "في المفاوضات الأخيرة بين مسد والنظام، طلب النظام تسليمه الحدود والمعابر الحدودية وانتشار قواته، الأمر الذي رفضه مسد مطالباً ببقاء قسد هي المسيطرة. وأعتقد أنه حتى هذا الطرح قد تجاوزته التوافقات الدولية، لذلك نجد أن النظام يحاول تدعيم وجوده في المدن الرئيسية، مثل دير الزور والحسكة والرقة، ليضمن بقاءها تحت سيطرته في حال دفع بالأكراد من المناطق الشمالية باتجاه الداخل، إذ ستتحد البنادق لقتال داعش في البادية السورية".
ورأى المصدر أن "موضوع تقاسم مناطق النفوذ في سورية، يتم عبر توافقات الدول الفاعلة في سورية، وهذا منفصل عما نشاهده أو نسمعه من مواقف متضاربة، تحديداً إن أيقنّا أن تركيا هي حليف استراتيجي لأميركا وللروس في الوقت ذاته، وكفتها راجحة على الأكراد والإيرانيين، البعيدين نوعاً ما عن صراع الشمال، على الرغم من أن هناك وجوداً لها على الفرات في دير الزور. بالتالي قد نشهد تبادلاً في إدلب، تحديداً بين المدينة وجزء من ريفها الجنوبي والشمالي والشرقي لصالح الروس والنظام مقابل مناطق حدودية".
وتابع "لكن تبقى العقدة في إدلب هي المقاتلين الأجانب المنتمين لتنظيم القاعدة، لأن أي عملية عسكرية قد تدفع جزءاً كبيراً منهم للعودة لدولهم، الأمر الذي يهدد أمنهم، في حين تضغط الدول الأوروبية لإبقائهم في منطقتهم والتعامل معهم على المدى الطويل، ولكن قد يتم نقلهم إلى مناطق مواجهة لقسد، ليتم العمل على استنزافهم خلال الفترة المقبلة".