وكما كان متوقعاً حلّ الحزب "الشعبي" المحافظ الحاكم، بقيادة رئيس الوزراء ماريانو راخوي، في المرتبة الأولى بنسبة 28.72 في المائة، وحصل على 123 مقعداً. لكنه لم يتمكن من انتزاع الغالبية المُطلقة، التي تستوجب الحصول على 176 مقعداً. وشكلت هذه النتيجة انتصاراً بطعم مرّ، لكونها لا تتيح للحزب اليميني المحافظ، تشكيل حكومة لوحده، وتفرض عليه عقد تحالفات مع أحزاب أخرى، تبدو مستحيلة في السياق الراهن، لأن أحداً لا يرغب في فكرة التحالف مع الحزب الملطخ بفضائح الرشوة وإجراءات التقشف المهينة، والذي يرمز إلى مرحلة سياسية تتطلّع غالبية الإسبان إلى إحداث قطيعة جوهرية معها. وهذا ما عكسه تصريح راخوي بعد الإعلان عن النتائج، حين قال بنبرة متشائمة: "سأحاول تشكيل حكومة. حكومة مستقرة لكنها ستكون مهمة صعبة".
ونجح الحزب "الاشتراكي" المعارض في الحدّ من الخسائر، وحافظ بصعوبة شديدة على المرتبة الثانية في نتائج الانتخابات بنسبة 22 في المائة، وحصل على 90 مقعداً في البرلمان، في مقابل 110 مقاعد في البرلمان السابق. وكان من الممكن أن تكون خسارة "الاشتراكي" أكبر، لأنه استفاد في الواقع من النظام الانتخابي الإسباني المعقّد، الذي يمنح الأفضلية للمناطق الريفية والأقاليم الصغيرة، التي ما يزال الحزب يتمتع فيها ببعض النفوذ.
ويجد الاشتراكيون نفسهم الآن في موقع الضعف وتحت رحمة تحالفات مستحيلة مع اليسار الراديكالي، الذي بنى استراتيجيته على انتقاد الأداء الاشتراكي. وتعكس هذه النتيجة أزمة خطيرة داخل الحزب، وهي ثاني هزيمة بعد الانتخابات السابقة في انتخابات الأقاليم في مايو/أيار الماضي، على الرغم من محاولات زعيمه الشاب بيدرو سانشيز، الحفاظ على المكاسب السابقة، غير أنه لم ينجح في ضخّ دماء جديدة في جسم حزبي مترهل أنهكته الأزمة الاقتصادية والأداء الباهت خلال الفترات التي حكم فيها البلاد.
اقرأ أيضاً الانتخابات التشريعية الإسبانية: هل تنهي هيمنة الحزبين التاريخيين؟
ويبقى الرابح الأكبر ونجم هذا الاقتراع التشريعي من دون منازع، حركة "بوديموس"، وزعيمها الشاب أستاذ العلوم السياسية بابلو ايغليزياس، الذي تمكن من الحصول على نسبة 20.7 في المائة منتزعاً 69 مقعداً في البرلمان. كما كاد أن يحصل على المرتبة الثانية مكان الحزب "الاشتراكي"، بفارق 400 ألف صوت فقط.
وتبدو هذه النتيجة وكأنها معجزة لحزب جديد، تأسس عام 2014 فقط، وغالبية مرشحيه نشطاء من المجتمع المدني، ولا تجربة سياسية سابقة لهم. وعكس هذا الانتصار رغبة جارفة لدى الناخبين الإسبان، تحديداً في أوساط الشباب، من أجل إحداث قطيعة مع النخب السياسية اليسارية واليمينية. وقد تمكن "بوديموس" من تحقيق اختراق تاريخي في إقليم كاتالونيا، وحصل على غالبية الأصوات، بفضل دعم عمدة مدينة برشلونة آدا كولو، الناشطة السابقة في مجال الدفاع عن حق السكن للفقراء والمعدمين، ولتبنّيه مبدأ تنظيم استفتاء شعبي حول استقلال الإقليم عن الحكومة المركزية.
كما نجح العشرات من مرشّحيه في المدن الرئيسية، في غالبية الأقاليم الإسبانية. وذلك بفضل برنامج انتخابي متميّز، ساهم في بلورته 15 ألف شخص واشتمل على نقطتين جذابتين: ضمان عائد شهري لكل مواطن من 600 يورو، وزيادة الضريبة على الدخل بنسبة 10 في المائة على الذين يتجاوز دخلهم السنوي 300 ألف يورو. وحلّ "بوديموس" في المرتبة الأولى في إقليم الباسك، وانتزع المرتبة الثانية في العاصمة مدريد بنسبة 21 في المائة، كما نال 25 في المائة في فالنسيا واشبيلية وقادش.
أما حركة "ثيودادانوس" الوسطية بقيادة ألبير ريفيرا، فتُعتبر رابحة أيضاً في هذا الاقتراع، بحصولها على 14 في المائة من مجمل الأصوات، و40 مقعداً في البرلمان. وسيكون لها دور مهم في لعبة التحالفات المقبلة، وقد يكون حاسماً في منح الحزب "الشعبي" المحافظ، فرصة أخرى لحكم البلاد، إن وافقت على التحالف معه ضمن ائتلاف حكومي موسع يضم القوميين الباسك ويضمن الغالبية.
ويبقى الاقتراع الإسباني، الأكثر هشاشة في تاريخ البلاد، لأنه لم يعطِ الأغلبية لأي طرف، ويفتح الباب لأسابيع وربما أشهر من المفاوضات العسيرة، بين مختلف الأحزاب لتكوين تحالفات تفضي إلى حكومة ائتلافية. وتبدو حظوظ اليمين في تشكيل حكومة ائتلافية قليلة، بعدما أعلنت "بوديموس" أنها ستتحالف مع "الاشتراكي" ضد "الشعبي". غير أن هذا التحالف يلقى معارضة شديدة في صفوف شريحة كبيرة من ناخبي "بوديموس" الذين يرفضون هذه الفكرة من أساسها.
وكيفما كانت نتيجة التحالفات المقبلة فقد برهنت الديمقراطية الإسبانية، بخلاف غالبية جيرانها الأوروبيين، على حيوية وتجدد كبيرين في السنتين الأخيرتين، مع بروز زعامات شابة آتية من معترك المجتمع المدني، وقريبة من اهتمامات وهواجس المواطنين. وهو ما حقن المشهد السياسي الإسباني بدم جديد، ويلقّن درساً كبيراً لجيرانها الأوروبيين في التعددية الحزبية والعمل السياسي البديل.
اقرأ أيضاً: الصحف الفرنسية تتابع الانتخابات الإسبانية عن كثب