لا يعرف كثيرون أنّ زياد الجرّاح (مواليد 1975) أصل عائلته من بلدة المرج في البقاع الغربي، إلى الشرق من بيروت، قرب الحدود السورية. وأنا أيضًا من بلدة المرج.
يبعد منزل أهل زياد بضعة أمتار عن منزل أهلي. مسافة تكفي لإقامة علاقات جيرة ممتازة. عندما وقع اعتداء 11 سبتمبر/أيلول 2001 كنتُ في الثامنة من عمري. تسمّرت مع أفراد العائلة أمام شاشات التلفزيون نشاهد الطائرة، وهي تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. واستمتعنا بإعادة مشهد الاصطدام طوال الليل. لم أخَف حينها. لم أرَ دموع أهالي الضحايا. لم أفكّر في الضحايا أصلاً. فرحتُ. سألتُ والدي مرّات كثيرة عن الأبطال المنفّذين. تمنّيتُ لو أنّ أحد أقاربي بينهم. فكّرت أنّني سأفتخر به. سأتحدّث عنه مطوّلا وسأقول إنّه "غزا أميركا في عقر دارها". فقد حسد الجميع أهالي المنفّذين. حسدوهم علی الشرف الذي نالوه بفعلة أبنائهم.
بدأت أسماء المنفّذين تظهر تباعاً. لم نتوقّف عند الأسماء. لم تكن اﻷسماء تعني شيئاً لنا في البداية. لم تعنِ لنا اﻷسماء شيئاً إلا بعد يومين حين ذُكِر اسم "زياد الجرّاح" من بينها.
وقع الاسم كالصاعقة علينا. تغيّرت ردّات الفعل. قال بعضٌ، إنّ زياد كان راكباً فقط. بعضهم الآخر لم يصدّق، وقال: إنّ العملية بأكملها عبارة عن كذبة كبيرة. وبعضٌ ذكّرنا بأنّ زياد، بفعلته، هو شرفنا وفخرنا جميعاً.
توقّع الجميع أن تفاخر عائلته بابنها البطل. فوجئنا ببيان استنكار. فوجئنا بترويجهم فكرة أنّ زياد كان شاباً طائشاً وبنشرهم صوره في البارات والنوادي الليلية. لا يهم. كان زياد لا يزال بطلاً في نظرنا. صعد إمام البلدة الشيخ، خالد، المنبر أثناء خطبة الجمعة حينها. قال إنّ "الحادي عشر من سبتمبر هو يوم أبيض.. أبيض علينا وأسود علی أميركا". قال إنّنا "نفتخر بزياد" ولكن طالَبَنَا أن "نرحم أهله ونقدّر مصابهم".
خلال الشهرين التاليَيْن كان زياد حديثنا الدائم. بعد فترة، لم نعد إلى الحديث عنه أبداً. وكأنّ الجميع نسيناه، دفعة واحدة. كنّا نستعيد ذكراه فقط من خلال الحوادث اللاحقة. مثلاً عندما مُنِعَ أحد أقاربه من السفر لتشابه في اﻷسماء. قريب آخر أُجبِرَ علی تغيير اختصاصه ليترك "هندسة الذرّة". ابن عمه الذي غادر معه إلی ألمانيا في عام 1996 لم يحصل علی الجنسية الألمانية إلا العام الماضي، 2013، لصلة قرابته بزياد.
توجّهت إلی قريتي بعد 13 عاماً، أمي الأوّل، أردتُ أن أعرف زياد. زياد الذي لم يعرفه أحد. حذّرني والدي. قال إن أيًّا من أفراد عائلته لن يقبل الخوض في حديث عن زياد. فتوجّهت إلی منازلهم. طلبت رؤية "أبو زياد" فجاءني الجواب كالتالي: "أبو زياد توفي منذ سنتين، أما أمّ زياد وبناتها فيعشنَ في بيروت". كيف يمكن أن يغفل أبي تفصيلاً كهذا في قرية صغيرة كقريتنا؟ كيف يمكن ألا ينتبه إلى أنّ "أبو زياد" قد مات؟
قارنتُ بين موت الأب وموت ابنه. الابن الذي دخل التاريخ بموته. حكايته التي تناقلها الجميع. والأب الذي مات في صمت! قصدتُ منزل عمّه غازي. قلتُ لزوجته وابنته إنّني أريد معرفة زياد أكثر. فنصحتني ابنته ألا أفتح موضوع زياد مع والدها، وأضافت أمّها: "ما بيقدر يسمع اسمه حتّى". أخبرتني ابنة عمّه أنّ زياد لم يسكن هنا. سكن طوال حياته مع عائلته في بيروت، وكان يزور الضيعة في عطل نهاية الأسبوع. يمضي وقته مع الكشّافة أو في لعب كرة القدم مع أولاد عمومته.
كان زياد "عاديًّا". وصفته زوجة عمّه بـ"طيبة الطيبة". قطعنا حديثنا بعد قدوم زوجها. أخبرني أنّه لا يريد التحدّث في موضوع زياد أبداً. أكّد لي أنّه لم ولن يفتخر بفعلة زياد وبقتله الأبرياء، أبداً. بعد إصراري، أخبرني أنّه لا يعرف زياد أصلاً. وأنّ زياراته القليلة إلى الضيعة لم تكن كافية لمعرفته، خصوصاً أنّه كان يصطحب معه أصدقاءه من بيروت، معظم الأحيان. وأكّد لي أنّه كان شاباً عادياً، لكنّ "تربيته تختلف عن تربية أبناء عمومته كما تختلف تربية جميع القرويين عن تربية أبناء المدينة". وقال، إنّه كان "حنوناً بطبعه، لكن أقرب إلی عائلة أمّه منه إلی عائلة والده. كان يأتي مثل الضيف"، قال عمّه. وأخبرني أنّه كان طائشاً خلال مراهقته. روى لي قصّة حادث سير ارتكبه هو وأولاد عمومته بسبب قيادتهم بسرعة فائقة. لكنّه كان "عاديًّا"، يشبه أيّ مراهق.
قصدتُ بيت عمّه جمال. هو نفسه النائب في مجلس النوّاب اللبناني الدكتور جمال الجرّاح. دمعت عينا زوجته حالما سمعت اسم زياد. كلمة "حبيبي" كانت تتردّد علی لسانها لا إراديّاً كلّما سمعت اسمه. قالت إنّه كان حنوناً جدّاً ومرضيّاً لأهله. ابتسمت عندما تذكّرت حبّه البيتزا، من يديها خصوصاً. أخبرتني أنّه كان يوصيها بمرطبان الصعتر والمكدوس كلّ مرة قبل عودته إلی ألمانيا. أخبرتني ابنتها عن الأيام القليلة التي أمضوها معه في ألمانيا.
تعامل معهم معاملة القريب الأكبر. اهتمّ بهم. لفّ لهم العرائس بيديه. ركض وإيّاهم في ساحات المترو وضحكوا بصوت عال. عرّفهم إلی حبيبته التركية "إيسل" التي اقتنی وإيّاها قطّة بيضاء. شاركهم في التبضّع واختيار البدلات لعمّه المعروف بأناقته. وكان أيضًا "عاديًّا".
طلبت من زوجة عمّه أن تصلني بأمّه. قالت لي إنّها تعيش في الظلّ منذ وفاة زياد التي لم تعترف بها. أخبرتني أنّ أمّه لم تترّحم عليه يوماً وما زالت تنتظره. اتصلت هي بأم زياد أثناء وجودي. فانفجرت الأم حالما سمعت اسم ابنها. صرخت كثيراً وقالت: "لا أريد أن أحكي عنه... وإذا سألوكم عنه قولوا إنّكم لا تعرفونه". تخيّلوا أمّاً تنتظر ابنها كلّ يوم منذ 13 عاماً، وفي الوقت نفسه تطالب بنسيانه ورحيله من ذاكرة الجميع. حتّی أمّه لم تعرفه. تخيّلوا عجزها!
إلتقيت أحد أقاربه، من الملتزمين دينيّاً. قال إنّه التقاه مرّة واحدة خلال زيارته الأخيرة لبنان، بعد مرض والده. التقاه أثناء صلاة الفجر في مسجد القرية. لم يعرفه. قال إنّه "كان غير". تمشيّاً حتّی شروق الشمس. أخبره عن تعرّفه إلی شبّان مؤمنين، في ألمانيا، دلّوه إلی "الطريق القويم". تحدّث عن "إيسل" التي يحبّها وتركها لأنّها رفضت ارتداء الحجاب. أقنعه قريبه بالعودة إليها ومحاولة إقناعها بهدوء. حكى له زياد يومها عن خلافاته مع عائلته بسبب التزامه ونمط حياته الجديد. أخبره أنّ والده أجبره علی حلق ذقنه فور وصوله من المطار. فحلقها إكراماً له. وعلم قريبه من "أبي زياد" فيما بعد أنّ زياد أعاد وصل علاقته بإيسل وأنّه سيتزوّجها. وطلب من والده سيّارة مرسيدس، قبل العودة. فاشتری له والده السيّارة.
إتّصل به قبل أسبوعين من الحادثة وقال له: إنّ السيارة تنتظره وإنّه يريده أن يعود. فضحك زياد طويلاً وقال له: أعط السيّارة لأختي".
سألت جدّي عن عزاء زياد. قال إنّه لا يتذكّره. استغربت موت ذاكرتهم جميعاً كلّما ذكرت اسم زياد.
إكتشفتُ فيما بعد أنّ أهله لم يقيموا له عزاءً أصلاً. فلا قبر، ولا عزاء، ولا صلاة عليه. لا شيء سوی وطأة موته الثقيلة. حتّی شهادة وفاة زياد لم تصدر إلا منذ سنتين. صدرت شهادتا وفاة الأب والابن سويّاً. مات زياد بموت والده، وليس قبل ذلك. في رحلة سؤالي عن زياد اكتشفتُ كيف أنّ بعضاً نخافهم في موتهم فقط. نعيش معهم، نضحك، نعرفهم، أو نظنّ أنّنا نعرفهم، نحبّهم.. نحبّهم كثيراً. ونخافهم بعد موتهم. زياد الجرّاح صورة خوفنا. لا أحد يتذكّره. لا أحد يريد الحديث عنه. لا شيء في البلدة الصغيرة يدلّ علی أنّ زياد كان هنا يوماً. مجرّد ذكريات قليلة يحاول الجميع نسيانها كلّ يوم. بعضهم يخاف من ذكر اسمه حتّی.
هي فوبيا الاسم أصابت الجميع بعد موت زياد. خوفنا من زياد يشبه خوفنا من أنفسنا. خوفنا من "العاديّ" فينا. هو الذي كان "عاديّاً" جداً. يدرّب الجميع أنفسهم علی نسيانه كلّ يوم. ويتذكّرونه كلّ يوم. يتذكّرون زياد بنسيانه.