تستنسخ أجهزة أمن السلطة أساليب الاحتلال في محاصرة العمل المقاوم المتصاعد في الضفة الغربية في محاولة لتحجيمه من خلال أساليب الترغيب، أو خلق توتر في العلاقة بين المطارد ومحيطه الاجتماعي بواسطة قنوات لتمرير الرسائل.
-وصلت إلى العشريني الفلسطيني أبو إبراهيم، في سبتمبر/ أيلول الماضي، رسالة بأنه ضمن قائمة أسماء تضم 73 مطاردا سلمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية عن طريق ابن عمه الذي يعمل في جهاز المخابرات العامة والذي وعده بأن ملفه سيحل إذا قام بتسليم نفسه وسلاحه للأجهزة الأمنية في جنين.
ويؤكد أبو إبراهيم، الذي طلب عدم الكشف عن هويته بسبب نشاطه المقاوم، أن رسائل تصله من الأجهزة الأمنية عبر أقارب وأصدقاء، إما على شكل نصائح بضرورة تسليم نفسه، أو اقتراحات باعتقاله لفترة تراوح بين شهرين وثلاثة من أجل تسوية ملفه مع الاحتلال حتى يوقف ملاحقته.
كيف تمارس الضغوط على المقاومين؟
سلم 15 مطاردا من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، أنفسهم للأجهزة الأمنية خلال شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني، وفق ما يؤكده مصدر أمني مطلع رفض الكشف عن اسمه لحساسية موقعه الوظيفي، ومن بين من سلموا أنفسهم قيادي في المجموعة جرى فتح قناة اتصال معه عبر أقارب زوجته من أجل إقناعه بأن ديونه التي بلغت قيمتها 100 ألف شيقل (توازي 29 ألف دولار أميركي)، سيجري تسديدها، وسيحصل على وظيفة في جهاز أمني بعد اعتقاله لثلاثة أشهر ومن ثم تسوية ملفه مع الاحتلال.
ضغوط على العائلات ترهيباً وترغيباً لتسليم أبنائهم المقاومين
وتتقاطع الشهادة السابقة مع إفادة مطارد من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس في مخيم جنين، أوضح أنه كان ضمن مجموعة تضم 5 مقاتلين واعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية 4 من رفاقه، بينما تمكن من الإفلات بعد مداهمة محل تجاري يعمل فيه، وذكر أن جهاز المخابرات العامة هدد والد أحد أفراد مجموعته المعتقلين بالفصل من عمله في جهاز الأمن الوطني إذا لم يقم ابنه بتسليم نفسه.
ويتفق أبو إبراهيم، وهو مقاوم من كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، مع المطارد أبو علي من كتائب شهداء الأقصى، في أن رسائل السلطة للمقاومين تتم من خلال أصدقاء وأقارب يعملون في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، موضحا أنه بحكم انتمائه لفتح وعلاقاته الواسعة مع عناصر في الأجهزة الأمنية، تصله باستمرار رسائل إغراء وتحذير في الوقت ذاته، فمثلا أبلغه ابن عمته الذي يعمل في جهاز المخابرات العامة، بأن الاحتلال الإسرائيلي وضعه على قائمة الاغتيالات، والسلطة قادرة على حمايته إذا سلم نفسه وسلاحه، إذ سيتم اعتقاله لثلاثة أشهر في سجون السلطة، وسيتم تفريغه لاحقا في جهاز الأمن الوطني مقابل راتب منتظم برتبة ملازم، لكنه رفض العرض، ويضيف أن مضمون الرسائل التي وصلت إليه وإلى زملائه إما على شكل نصائح مفادها أن حالة المقاومة في شمال الضفة الغربية ستنتهي وسيدفع الثمن، وبالتالي الخيار الأسلم هو تسليم نفسه للأجهزة الأمنية، أو بالتهديد من خلال عناصر في الأجهزة الأمنية أو رسائل تهديد بأن الاحتلال ينوي اغتياله.
وتتقاطع إفادات المطاردين السابقين مع شهادة ماهر حلبي، مدير إدارة جهاز الاستخبارات العسكرية في غزة (عمل في أجهزة أمن السلطة قبل أحداث الانقسام 2007)، والذي جرى فصله في العام نفسه للاشتباه بعلاقته بالمقاومة الفلسطينية، مؤكدا أنه كان شاهدا على عمليات اعتقال أقارب مطاردين على يد الجهاز الذي كان يعمل فيه بهدف الوصول إليهم.
أساليب مستنسخة
تستخدم أجهزة أمن الاحتلال الأساليب التي تستخدمها السلطة ذاتها، بحسب ما يتضح من إفادة الأسير المحرر شريف طحاينة، من بلدة السيلة الحارثية، شمال الضفة الغربية، والذي اقتحم الاحتلال منزله 30 مرة خلال فترة مطاردته التي امتدت بين عامي 1988 و1990 أثناء الانتفاضة الأولى، وفي كل مرة كان ضابط المخابرات يحاول إقناع عائلته بضرورة الحديث معه لتسليم نفسه.
سحب تصاريح عمل 164 فرداً من أقارب مطاردي "عرين الأسود"
ويشير طحاينة في إفادته لـ"العربي الجديد"، إلى أن الضغط على العائلة توزع ما بين الترهيب والترغيب، فتارة كانوا يحاولون التأكيد على أن استمرار مطاردته سيؤدي إلى اغتياله وهدم المنزل، وأحيانا يحاولون إقناع العائلة بأنه لن يقضي فترة طويلة في السجن إذا ما سلّم نفسه، وفي تلك الفترة جرى اعتقال والد رفيقه بالمطاردة رائد السعدي لمدة 4 شهور بهدف الضغط على ابنه لتسليم نفسه.
وفي عام 1996 تمكن الأسير صالح طحاينة من الهروب من سجن النقب بعد انتحاله شخصية أسير مفرج عنه، لتبدأ عملية مطاردة مزدوجة له من قوات الاحتلال الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الفلسطينية التي سعت للوصول إليه من خلال التحقيق مع أقاربه وأصدقائه وأيضا التواصل معهم وإقناعهم بضرورة تسليم نفسه من أجل حمايته. ويروي شريف أن الأجهزة الأمنية تواصلت معه وطلبت منه أن يوجهها إلى مكان المطارد صالح، وعندما رفض، طلبت منه أن يقنعه بضرورة تسليم نفسه، والتواصل مع قيادته للسماح له بهذه الخطوة، لكن الاحتلال استطاع الوصول إليه واغتياله في مدينة البيرة في يوليو/ تموز 1996. ويشير شريف إلى اكتشاف مراسلات موجهة إلى صالح ملقاة في مسرح اغتياله مع أشخاص من عائلته وأصدقائه ينقلون له رسائل من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في هذا السياق.
ويصف الباحث والمحاضر في دائرة العلوم الاجتماعية بجامعة بيت لحم وسام الرفيدي، الذي قضى 9 سنوات خلال الانتفاضة الأولى مطاردا من قوات الاحتلال لموقعه القيادي في الجبهة الشعبية، ما تقوم به السلطة الفلسطينية بحق المطاردين بأنه استنساخ أساليب الاحتلال في الضغط على العائلة أو استخدامها لإقناع المطارد بتسليم نفسه، وهذا ينطبق أيضا على الأسرى الذي يرفضون الاعتراف خلال التحقيق، إذ يتم اعتقال أفراد من عائلاتهم للضغط عليهم.
ويوضح الرفيدي أن الضغط على البنى الاجتماعية في الفترة الأخيرة بعد تصاعد العمل المقاوم في الضفة، لم يقتصر على محاولات السلطة إقناع المطاردين بتسليم أنفسهم، إذ تزامن ذلك مع إعلان الاحتلال عن سحب تصاريح العمل الخاصة بـ164 فردا من أقارب مطاردي مجموعة عرين الأسود (مجموعة عسكرية تشكلت من عدة فصائل فلسطينية في فبراير/ شباط 2022 بمدينة نابلس)، والهدف واضح وهو الضغط على الحاضنة الاجتماعية للمطاردين، بينما تلجأ السلطة أكثر إلى أسلوب الإقناع.
الضبط الاجتماعي: العائلة وقرار المطارد
تخلص دراسة تحت عنوان "علم نفس الإرهاب"، أعدت عام 2004، ونشرتها وزارة العدل الأميركية، إلى أن الطريقة الأكثر فعالية لتفسير سلوك الأفراد المنخرطين في "الإرهاب" (لا يتبنى التحقيق المصطلح ويستخدم الدراسة لمحاولة فهم الإطار النظري لسلوك الأجهزة الأمنية)، يكون من خلال الجمع بين العوامل الشخصية والظرفية المحيطة، إذ تكشف الدراسة أن العوامل المتعلقة "بالشخص" ليست سوى جزء واحد من المعادلة، وغالباً ما لا تكون الأكثر أهمية، بل إن هناك عوامل سياقية، مثل دعم أو رفض الأصدقاء والعائلة سلوك الفرد، والمخاطر المترتبة عليه. وتعلق أستاذة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت الأسيرة المحرر رولا أبو دحو على ذلك بالقول إن التجربة الأمنية الفلسطينية الخاصة بالسلطة تستمد سياقاتها من تجارب ودراسات أميركية وإسرائيلية وعربية.
وترى أبو دحو أن الفهم النظري العام لمركزية العائلة في العلاقات داخل المجتمع يجعلها في محور الضغط الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، مستغلة مشاعر التضامن والانتماء بين أفرادها أو الأصدقاء لخلق توتر في العلاقة بين المطارد ومحيطه الاجتماعي، على اعتبار أن هذا جزء مهم من مدخلات القرار لدى الفرد في السياق العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، على عكس السياق الغربي الذي تشتد فيه قيم الفردانية وتتغير فيه طبيعة العائلة ووظيفتها.
وفي كتابه "مقدمة في علم الاجتماع" الذي نشرته جامعة كامبريدج بطبعته الرابعة عام 2011، يوضح العالم البريطاني كين براون أن الضبط الاجتماعي يعمل في مستويين: التحكم المباشر والسيطرة غير المباشرة، ويقصد به ممارسة شخص ما تأثيرا على آخر، فيما توجد طبيعة رسمية لهذا النوع من الضبط تمثله الحكومة والمؤسسات الرسمية كالأجهزة الأمنية، وأخرى غير رسمية لديها سلطة إقناع أكثر من الأولى، وتتشكل في إطار العائلة والأصدقاء، ولطالما كانت وحدة الأسرة تاريخياً مهمة في تشكيل شخصيات وسلوك أفرادها، ولذلك فهي أكثر مؤسسة تساعد في ممارسة الضبط الاجتماعي.
محاولة تمريرالرسائل
في 19 سبتمبر اعتقلت الأجهزة الأمنية المطارد مصعب اشتية من وسط مدينة نابلس، لتندلع مواجهات عنيفة بين الأجهزة الأمنية ومتظاهرين خرجوا احتجاجا على عملية الاعتقال، ويقول والده عاكف، في مقابلة مع "العربي الجديد": "لم يتواصل معي أحد بهدف إقناع ابني بتسليم نفسه، لكن بعد اعتقاله جرى تمرير شائعات أمنية مفادها أن ما جرى كان بالاتفاق مع العائلة، وهو أمر غير صحيح"، فيما يفسر الباحث في الشأن الأمني رامي أبو زبيدة ذلك قائلا إن الأجهزة الأمنية تواجه في السنة الأخيرة تشكيلات مقاومة في جنين ونابلس، تحظى بتأييد شعبي واسع، وهذا يحد من قدرتها على التعامل بعنف معها، ولذلك فهي تستعين بعوائل المطاردين إما لتبرير السياسة الأمنية أو لتمريرها شعبيا.
ويلفت أبو زبيدة إلى أن قدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على التواصل أو الوصول للمطاردين محدودة لوجودهم في أماكن آمنة نسبيا، وبالتالي يجري نقل الرسائل لهم عبر حاضنتهم الاجتماعية التي يُراد لها أن تتحول من مساند وداعم للتوجه إلى واحدة من قنوات الرسائل الأمنية، أو يتم استهدافهم إذ مارست الأجهزة الأمنية عمليات اعتقال للضغط على المطاردين، كما في حالة الشاب عيسى علاء الجمال، من مخيم جنين، الذي اعتقل في 11 مايو/ أيار الماضي للضغط على شقيقه المطارد لتسليم نفسه، وجرى تحويله إلى سجن أريحا المركزي، وأيضا في 31 نوفمبر اعتقلت الشاب محمد ناصر السعدي من مكان عمله في مدينة جنين للضغط على شقيقه المطارد مجد لتسليم نفسه، بحسب بيانات لجنة أهالي المعتقلين السياسيين (أهلية)، وهو أمر مناف للقانون الدولي الإنساني المنطبق على الأراضي الفلسطينية، كما تقول لـ"العربي الجديد" المختصة بالشأن القانوني والمستشارة السابقة في وزارة الخارجية الفلسطينية ليما بسطامي.
(تم إخفاء أسماء المقاومين بطلب منهم لعدم تعريضهم للخطر)