ترك الفلاح التشادي محمد داود مزرعته في مقاطعة دبابا Dababa الواقعة بإقليم حجر لميس Hadjer-Lamis جنوب غربي تشاد، وغادر باتجاه العاصمة في يونيو/حزيران 2019 بحثا عن فرصة عمل توفر له دخلا بديلا عن أرضه، التي عانت من آثار الجفاف وانخفض إنتاجها من 15 جوالا من حبوب الدخن إلى النصف.
ويعمل العشريني داود في ورشة لإصلاح السيارات في نجامينا، كما يقول لـ"العربي الجديد" موضحا أنه يتقاضى من عمله الرئيسي، إلى جانب توزيع الخبر للبقالات ليلا، ما يوازي 400 دولار أميركي، وهو مبلغ أفضل من دخله السابق، إذ كان يبيع جوال الدخن بما يوازي 65 دولارا أميركيا.
ويعد داود واحدا من بين 500 ألف مزارع تشادي نزحوا من مناطقهم بين عام 2018 ومايو/أيار 2022، نتيجة الجفاف الذي ضرب الأراضي الزراعية، كما تقول توناجي باسونجام، مسؤولة الموارد البشرية في المعهد التشادي للبحوث الزراعية من أجل التنمية (حكومي)، والتي توضح، لـ"العربي الجديد"، أن 8 ملايين يعملون بالزراعة في تشاد، مشيرة إلى أن 45 بالمائة من المزارعين النازحين اتجهوا إلى نجامينا ومدينتي مندو Moundou جنوبي تشاد، وأبشة Abeché في أقصى الشرق، فيما نزح 50 بالمائة إلى أقصى شمالي البلاد ووسطها بحثا عن الذهب الذي ظهر هناك، و5 بالمائة غادروا باتجاه ليبيا بهدف الهجرة إلى أوروبا، وهو ما يوثقه تقرير سنوي صادر مع بدء موسم الزراعة في 22 مايو 2022، عن المعهد التشادي للبحوث الزراعية من أجل التنمية.
وأحصت نقابة تأمين النظام الرعوي (تعنى بالدفاع عن الرعاة) نزوح 13,543 راعياً إلى المدن والدول الحدودية التشادية، وهؤلاء كانوا يملكون مليوناً و754 ألف رأس من الماشية، كما يقول لـ"العربي الجديد" آدم حسن يعقوب رئيس النقابة، موضحا أن حركة النزوح بدأت في عام 2018، ومن بين النازحين العشريني إسحاق سوقي، الذي كان يملك 125 رأسا من الأبقار في شمال إقليم كانم شرق بحيرة تشاد، لكنه سافر إلى إقليم تبستي في أقصى الشمال الغربي، للعمل في التنقيب عن الذهب، وبعد عامين، باع ما جناه في ليبيا ليشتري سيارة، كما قال لـ"العربي الجديد"، وتابع :"سأعود إلى مناجم الذهب في كوري بوغودي على الحدود التشادية الليبية".
مليون تشادي يعانون من انعدام الأمن الغذائي
تسبب نزوح المزارعين في تراجع إنتاج محاصيل الحبوب خلال العام الماضي بنسبة 6.3% من إنتاج عام 2020 والبالغ مليونين و762 ألف طن، وفق تأكيد عبد العزيز إدريس كوردا، المدير التقني للهيئة الوطنية للأمن الغذائي الحكومية، لـ"العربي الجديد"، قائلا إن التراجع الإنتاجي تسبب في زيادة الطلب على الحبوب، وبما أن العرض صغير مقارنة مع الطلب، فقد ارتفعت الأسعار وعجز الفقراء عن توفير الغذاء الكافي، ما وضع أكثر من مليون إنسان في حالة انعدام أمن غذائي، والمفارقة أنهم يعيشون في الأقاليم الزراعية.
ومن أهم الأقاليم الزراعية التي انخفض إنتاجها من الحبوب والقطن وقصب السكر والأرز نتيجة الجفاف، "السلامات Salamat (شمال غربي تشاد)، البحيرة (غرب)، لوغون الشرقية، تانجيلي (جنوب غرب)، وحجر لميس"، حسب تأكيد مسؤولة قسم تنقيح البذور بوزارة الزراعة والري والتجهيزات الريفية، ماجيتودي مورنونديه لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أن تلك الأقاليم المتضررة من الجفاف تعتمد على الزراعة ويعيش فيها قرابة 4 ملايين نسمة، لكن بعضهم أجبروا، بعد تقلص الإنتاج، على النزوح في اتجاه المدن الكبرى بحثا عن لقمة العيش.
نزوح 500 ألف مزارع تشادي من مناطقهم
الوقائع السابقة يؤكدها أربعة مزارعين عانوا من انخفاض الإنتاج، ما أجبرهم على النزوح إلى نجامينا، ومنهم العشريني محمد نمر هارون الذي غادر قريته قوز Goz بإقليم السلامات في مارس/آذار 2019، متوجها إلى نجامينا بعد تأثر أرضه الزراعية، البالغة مساحتها هكتارا واحدا بالجفاف، وتراجع الإنتاج إلى 11 جوالا من الدخن، بعد أن كان يحصل على 30 جوالا، ويعمل على تخزينه وبيعه في الشتاء، كما يقول المزارع السابق ومدرس القرآن الكريم حاليا، وكذلك يعمل حارسا ليليا في دكان بسوق العافية بالدائرة الرابعة غرب نجامينا، ليجمع مبلغ يصل إلى 200 دولار كل شهر، كما يقول لـ"العربي الجديد".
وأضر نزوح الرعاة من أقاليم "البطحة Batha (وسط تشاد)، كانم، السلامات، وبحر الغزال"، بالثروة الحيوانية، بحسب تأكيد حسن عمر حسن، نائب رئيس النقابة الوطنية للبيطريين التشاديين، والذي قال لـ"العربي الجديد": "ماتت الماشية بسبب الجفاف، إذ تناقصت في هذه الأقاليم من 46 مليون رأس في 2017، لتصل في فبراير/شباط الماضي إلى 34 مليون رأس، ما جعل الآف الرعاة يغادرون مناطقهم إلى ليبيا بحثا عن الذهب أو الوصول إلى أوروبا".
وأصدرت الحكومة التشادية مرسوما، أعلنت فيه حالة الطوارئ الغذائية في البلاد. وفي حديثه للصحافيين في نيويورك في السادس والعشرين من مايو/أيار الماضي، قال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أنه من المتوقع أن يعاني حوالي 1.8 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، خاصة في نجامينا، حيث زادت حالات سوء التغذية الحاد الوخيم بنسبة 121 في المائة خلال مارس وإبريل/نيسان، ومايو 2022، بحسب ما جاء على موقع الأمم المتحدة في الثاني من يونيو الماضي، بعنوان " تشاد: صورة قاتمة تتجلى في البلاد حيث يواجه 2.1 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد"، ويشير الرصد الأممي إلى أن "سبب الأزمة مزيج من انعدام الأمن والفقر المدقع وعدم انتظام هطول الأمطار وارتفاع قياسي في أسعار المواد الغذائية وتدهور الوضع الاقتصادي".
تأثير التغير المناخي
تفاقم النزوح بشكل ملحوظ بسبب الكوارث الطبيعية الناتجة عن التغير المناخي، وتزايد الصراعات المسلحة والحروب في تشاد، حسب ما يقول الدكتور حسن موسى تشاي، أستاذ الجغرافيا في كلية التربية بجامعة الملك فيصل الحكومية في نجامينا، مضيفا لـ"العربي الجديد": "التغيرات المناخية فاقمت من التصحر، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية من تشاد، مع هبوط لمناسيب المياه الجوفية، والزحف الصحراوي على حساب الغطاء النباتي، فضلا عن عدم دعم الحكومة القطاع الزراعي، إضافة إلى الفساد الإداري وانعدام الأمن في إقليم البحيرة، بسبب الهجمات التي تشنها حركة بوكو حرام من حين لآخر في القرى التابعة للإقليم المحاذي للحدود النيجيرية، فضلا عن إهمال الزراعة على حساب النفط والحصول على قروض وانشغال الحكومة بالبحث عن طرق للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة"، ويتابع: "تراجع الإنتاج الزراعي، وأصبح الإنتاج الموسمي في بعض الأحيان مصدرا لسد رمق أسر المزارعين فقط من دون أي مردود مالي يذكر".
انخفاض الإنتاج الزراعي في عام 2021 إلى 87 ألف طن
و"يؤدي الضغط المتزايد على الموارد الطبيعية في المناطق الهامشية (مثل منطقة وادي جنوب شرقي تشاد، التي تعاني من ندرة المياه)، والإضرار بالنظم الإيكولوجية الهشة، إلى تزايد النزاعات بين المجتمعات الزراعية المستقرة والرعاة الرحل، ما يزيد من التهديدات التي تواجه التنمية وسبل العيش. وتدفع هذه العوامل الأسر الزراعية للهجرة إلى مناطق ذات إمكانات أكبر، وإعادة نفس الدينامية في مكان آخر"، بحسب ما رصده الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (مؤسسة مالية دولية تابعة للأمم المتحدة في روما) عن تشاد.
وتساهم الصراعات المسلحة بين الرعاة والمزارعين، في تفاقم النزوح، كما يوضح الدكتور إسماعيل طاهر، المحاضر في الجغرافيا البيئية بالمعهد العالي للمعلمين (حكومي)، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن النزوح العشوائي يعني تنافسا على موارد قليلة وتكدس في منطقة صغيرة، وينتج عنه صراع مسلح على المرعى.
و"وقع 58 صراعا مسلحا، خلال الفترة من مارس حتى ديسمبر/كانون الأول 2021 من بينها 35 صراعا في جنوب تشاد و12 في الشرق و10 في إقليم البحيرة، نتج عنها مقتل 400 شخص واصابة 324 شخصا ونزوح 6500 شخص"، بحسب التقرير السنوي الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2021، ومن بين ضحايا تلك الصراعات العشريني أنجكا مماري الذي فقد كل ما يملك بعدما أجبرته تلك الصراعات على مغادرة قريته في ضواحي مدينة لاك (Lac) في إقليم بحيرة تشاد، ليصل إلى نجامينا قبل سنتين، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "غادرت المنطقة مع تكرار الصراعات المسلحة، وعدم تمكني من زراعة أرضي".
غياب دور الدولة في دعم المزارعين
يفتقر المزارعون إلى إمكانية الحصول على الخدمات الإرشادية والمعرفة والتكنولوجيا التي يحتاجون إليها لتحسين الإنتاجية. كما أن عدم إمكانية الحصول على الخدمات المالية الموجهة إلى الريف يمنع المزارعين الفقراء من استحداث فرص بديلة لإدرار الدخل أو تحسين الإنتاجية، بحسب رصد موقع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية عن تشاد.
ولتفادي إشكالية نزوح المزارعين، يتوجب على الدولة أن تهتم بالتنمية الريفية، إذ تركزت التنمية في تشاد على العاصمة وبعض المدن الكبيرة، وهو ما يجعل الريف بيئة طاردة للشباب (الأيدي العاملة). لذا يجب على الحكومة أن تركز على توفير الخدمات الصحية والتعليمية والكهرباء والمياه الصالحة للشرب في الأرياف، بحسب إفادة الدكتور تشاي، وهو ما يحلم به مزارع القطن في إقليم ماندول، جنوبي البلاد، أغاس مولنقا (17 عاما)، الذي ترك حقل الأسرة وغادر الإقليم في فبراير/شباط 2020 ليعمل خادما في بيوت الميسورين بوسط نجامينا، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "كنت أبيع القطن إلى شركة قطن تشاد وأجني 1050 دولارا، لكن اليوم أتقاضى مقابل عملي 50 دولار شهريا".