يوثق الجزء الأول من ملف ضحايا الجوع، محاولات اتجار في أعضاء لبنانيين يعانون فقراً مدقعاً ارتفعت نسبته وما يترتب عليه من محاولات استغلال طفت على السطح بسبب "واحدة من أشدّ الأزمات العالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر" كما يصفها البنك الدولي.
- تلقى الأربعيني اللبناني خلدون عياش عرضا لشراء كليته بعد أن نزل إلى الشارع في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، حاملا لافتة كتب عليها "كِلية للبيع مقابل تأشيرة وتذكرة سفر إلى بلد أوروبي"، وبالفعل فوجئ بما جرى سريعا إذ عرض عليه مختار ضيعة في الشمال (تحتفظ العربي الجديد باسمه الكامل) 5 آلاف دولار أميركي مقابل كليته كما يقول عياش الذي وافق على العرض، وذهب برفقة مختار وابنته المريضة وطبيب اتفق الطرفان معه على عملية نقل الكلية إلى مستشفى جامعي في بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة لعملية نقل الكلية، لكن نتيجة فحص تطابق الأنسجة جاءت سلبية ما أوقف الأمر.
ولم يتوقف عياش إذ كرر بحثه عن مشترين لكليته لكن هذه المرة كان معه صديقه عبد الرزاق غمراوي وقد دارا في شوارع طرابلس بحثا عن من ينقذهم من الفقر المدقع الذي تفاقم بعد أزمة لبنان الاقتصادية والتي يصنفها البنك الدولي على أنها "واحدة من أشدّ الأزمات العالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر"، بحسب ما جاء على موقعه الإلكتروني في الأول من يوليو/تموز2021 تحت عنوان "لبنان يغرق في واحدة من أكثر فترات الأزمات العالمية شدة وسط تقاعس متعمد".
بيع الأعضاء من أجل الهجرة غير الشرعية
يبحث عياش عن مشترٍ لكليته من أجل تأمين هجرة غير شرعية إلى أوروبا غير مبال بأنه قد يلقى حتفه بسببها قائلا لـ"العربي الجديد": "أعمل دهانا وأعيش في غرفة واحدة مع زوجتي وأولادي الأربعة في حيّ القبّة بطرابلس، وضعنا صعب لدرجة أننا نتناوب على النوم بسبب ضيق المكان، وجدت عملا منذ 9 أشهر في شركة للأمن والحراسة، براتب مليون ومئة ألف ليرة لبنانية (حوالي 27 دولارا أميركيا بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، مع وعود بزيادة المبلغ إلى مليون ومئتيْ ألف ليرة لبنانية، علما بأن هذا الراتب لا يتضمن بدل تنقلات لأنني ببساطة أعمل بدون عقد، وبالتالي قد أنفق جانبا كبيرا منه فقط على الوصول إلى عملي الذي لا يوفر لنا أي استقرار أو يكفينا عن سؤال الناس"، ما "يجعل تفكيري في محاولة الخلاص عبر بيع كليتي قائما أمام عيني طوال الوقت".
ولم يسلم صديق عياش، الخمسيني غمراوي والذي كان يعيل 3 أبناء بواسطة عربة لبيع عصير قصب السكر جلبها من مصر، من حملات الشرطة التي تزيل البسطات وتطارد الباعة الجائلين بشكل شبه يومي، ويقول: "منعتني بلدية الميناء من كسب رزقي، لا أعرف ماذا أفعل وأنا في أمسّ الحاجة إلى إجراء عملية في ساقي المهددة بالبتر نتيجة إصابة سابقة خلال جولات العنف المسلح بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن في طرابلس قبل عدة سنوات"، وتبلغ تكلفة العملية 16 ألف دولار، لكن جوع أبنائه يؤلمه أكثر مما تؤلمه ساقه، واصفا ذلك بالقول: "حين يجوع أولادي أجوب الشوارع باكيا، أعدهم بجلب الخبز معي ولكنني أخيب أملهم في كل مرة"، ويضيف: "ما زاد الطين بلّة هو ندرة الطحين وازدياد سعره واحتكاره".
الحالة التي وصل لها عياش وغمراوي تمثل علامة على المشهد العام في لبنان الذي بات فيه ما يزيد على ثلاثة أرباع السكان في عداد الفقراء، إذ تضاعفت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد (يتجاوز الحرمان المادي التقليدي ليشمل الخدمات الصحية والأدوية، والخدمات والتعليم والعمل والمسكن والأصول والممتلكات) من 42% عام 2019 إلى 82% من مجموع السكان عام 2021، بينما بلغت نسبة مَن يعانون من الفقر "المدقع" ومتعدد الأبعاد 34%، ويشمل الفئات التي تحيط بها جوانب الفقر السابقة بالإضافة إلى العمل والدخل، بحسب دراسة أصدرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) تحت عنوان "الفقر متعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة".
ارتفعت نسبة الفقر متعدد الأبعاد في لبنان إلى 82%
و"يؤدي الارتفاع في نسبة الفقر إلى تداعيات خطيرة على المجتمع، من بينها ظهور حالات الاستغلال ومحاولة الاتجار في الأعضاء، ويصل إليها الشخص حين يختبر أقسى درجات الحاجة والعوز، فتكون النتيجة محاولة إلغاء نفسه"، وفق ما توضحه أستاذة العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية الدكتورة أديبة حمدان، مشيرة إلى أن: "لبنان يعرف في الوقت الحالي كما هائلا من الإحباط والفقر وبدرجات لم نشهدها من قبل نتيجة التدهور السياسي والاقتصادي"، وفي ظل انسداد الأفق وغياب الأمل بالدولة، قد نشهد زيادة محاولات بيع الأعضاء وما يظهر على السوشيال ميديا من طرق احتجاجية مثل إعلانات لأهالي عن بيع أطفالهم وازدياد حالات الهجرة غير الشرعية وضحاياها، محذرة من أن "الانهيار الاجتماعي ليس محصورا فقط بمظاهر الجوع والفقر، إنما انهيار القيم والأخلاق واسترخاص الأرواح".
شبكات بيع الأعضاء تنشط على "فيسبوك"
رصدت "العربي الجديد" 3 صفحات على موقع "فيسبوك" تعرض إعلانات لباحثين عن مشترين لأعضائهم، وتحمل الصفحات أسماء "بيع كلية في لبنان" و"تبرع كليه مقابل ماده" و"كلى للبيع"، وينحدر غالبية المعلنين عبرها من الجنسية اللبنانية والسورية والعراقية، بالإضافة إلى سوريين مقيمين في لبنان، وتراوحت المبالغ المطلوبة مقابل الكلية الواحدة بين 5 آلاف دولار و20 ألفا.
ونشرت معدة التحقيق إعلانا باسم مستعار (جنى حمدان) حول حاجتها إلى بيع كليتها لعلاج والدتها عبر الصفحات السابقة، لتتلقى عرضا بعد ساعات معدودة من شخص يدعى محمد الأحمد، ويزعم أنه سوري الجنسية، وسألها مباشرة عن فئة الدم، وعرض عليها شراء كليتها مقابل 15 آلاف دولار على أن يتكفل هو وشريكاه بكل مصاريف السفر إلى تركيا لتتم العملية هناك، لأنها ممنوعة في لبنان" إذ تجرم المادة 586 من قانون الاتجار بالأشخاص اللبناني الصادر عام 2011 نزع أعضاء أو أنسجة من جسم المجني عليه، وتتراوح العقوبة بين الحبس 5 سنوات وتصل إلى 14 عاماً مع الأشغال الشاقة، خصوصاً في حال توفي الواهب للعضو أو إذا كان قاصراً.
ويخضع وهب الأعضاء من شخص حيّ إلى آخر لشروط معينة وأهمها "أن يكون بين الأقرباء حتى الدرجة الرابعة" بحسب المرسوم الاشتراعي رقم 109 المنشور في الجريدة الرسمية عدد 45 عام 1983، والذي ينظم عملية وهب الأعضاء البشرية وفق توضيح محامي الاستئناف في بيروت جورج خوري لـ"العربي الجديد"، أما ما تقوم به عصابات لبنانية خارج البلاد فيكون عبر خداع المستشفى واللجنة الطبية في المستشفى الذي اعتادوا على إجراء العمليات لـ"زبائنهم" فيه كما قال الأحمد في محاولته لطمأنة معدة التحقيق، بأن "وهب الأعضاء (تبرع) وليس بيع"، وتابع: "ستقولين أمام اللجنة الطبية وفي المستشفى أنك صديقة للمريض وتريدين التبرع دون مقابل مادي"، وطلب منها تحضير بعض الأوراق الرسمية، كخطوة أولية قبل السفر إلى تركيا، وتشمل إفادة سكن وشهادة ميلاد وتحليل دم، وورقة تثبت ما إذا كانت عزباء، وعقد زواج في حال كانت متزوجة، على أن يتم إرسال المبلغ المالي المتفق عليه مقابل الكلية من خلال شركات تحويل الأموال على شكل دفعتين، قبل و بعد انتهاء العملية.
ويؤكد المستشفى التركي الذي ذكره السمسار الأحمد في رده على "العربي الجديد" (تحتفظ الجريدة باسمه)، أنه يمكن لصديق المريض التبرع بمجرد موافقة اللجنة الأخلاقية على الأمر ويصبح الأمر قانونيا، أما بخصوص وجود وسيط أو وكيل يتربح من عملية نقل الأعضاء، فيقول ممثل المشفى بأن اللجنة تسأل وتحقق بشأن المعلومات اللازمة للتأكد من عدم وجود أموال واتجار، لكن "الخطأ وارد في بعض الأحيان، مع التأكيد على أننا في المشفى نقوم بزرع الكلى في حالتين فقط؛ وجود متبرع من الأسرة، وكذلك موافقة اللجنة الأخلاقية على الجهة المانحة للعضو".
"طلبات كثيرة من اللبنانيين"
يؤكد سمسار الاتجار في الأعضاء الأحمد، بأنه يتلقى العديد من الطلبات من لبنانيين يريدون بيع كلاهم من أجل الحصول على المال، قائلا إنه استقدم إلى تركيا سبعة لبنانيين خلال العام الماضي وأجروا العملية، لكن أزمة تجديد جوازات السفر في لبنان حدّت من قدرته، إذ أوقف الأمن العام العمل بمنصة حجز مواعيد لتقديم طلبات للحصول على جوازات السفر اعتبارا من 27 إبريل/نيسان 2022 لأنّ مخزونه من الجوازات شارف على النفاد بسبب الطلب الهائل عليها، ولا يتوفر التمويل اللازم لشراء كميات جديدة منها.
سماسرة شراء الأعضاء يتواصلون مع البائعين عبر "فيسبوك"
وترد المنسقة العامة لدى الهيئة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة في لبنان فريدة يونان بأن "إعلان أو عرض بعض الأشخاص نيتهم لبيع عضو من أعضائهم ليس مؤشرا إلى وجود هكذا ظاهرة في البلاد". ولا يمكن "لمافيات وعصابات بيع الأعضاء أن يتحايلوا على القوانين الطبية في لبنان مستغلين أن التبرع مشروع، لأن عملية وهب الأعضاء تخضع لمراقبة ومتابعة من قبل 3 جهات هي: وزارة الصحة ثم اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء وبعدها لجنة الأخلاقيات في نقابة الأطباء، وبحسب المدير العام لوزارة الصحة فادي سنان، فإن "عمليات الوهب من قبل شخص حيّ تحصل غالبا بين الأقارب، أما حالات وهب الأعضاء من شخص حيّ إلى آخر من دون صلة قرابة بينهما فهي تقتصر على حالات استثنائية، ويكون الواهب عادةً على علاقة روحية أو دينية أو سياسية أو حزبية بالمريض.
وفي ما يخص العصابات التي تستغل حاجة بعض اللبنانيين، يجيب: "لا سلطة لنا خارج لبنان"، بينما تؤكد المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في ردها على "العربي الجديد" بأنها "لا تتحرك إلا في حال وجود دعاوى بشأن بيع الأعضاء لدى قوى الأمن بناء على شكوى تصل إليها فقط".