"لو"، المُلهِمة المُلْهَمة
لسنا نعرف الكثيرَ عنها، باستثناء أنها المرأة التي أغوت أهمّ رجال عصرها فاقترن اسمُها بكبار الفلاسفة والكتّاب من أمثال نيتشه، ريلكه، فرويد وسواهم. لو أندرياس سالومي التي هام كثيرون بحبـّها وتألّموا وأُحبطوا لرفضها الارتباط بهم... هي التي لم تُقم علاقاتٍ جنسية حتى سن الثلاثين، وتزوجت من رجل اشترطت ألا يمسسها وبقيت مقترنة به ثلاثين عاما! بيد أن "لو" كانت أكثر من ذلك بكثير، كاتبة ومثقّفة أجمع كلُّ من عرفها على ذكائها الاستثنائي ومقدرتها على هضم أكثر الأفكار تعقيدا، ناهيك عن ممارسة استقلاليتها وحريتها في زمن كانت النساء فيه يعشن في ظلّ رجالهنّ.
ولدت "لو" عام 1861 في سان بطرسبورغ من عائلة ألمانية بروتستانتية مهاجرة، وكانت الأصغر بين ستة إخوة. درست الفلسفة والتاريخ والدين، وسعت إلى إيجاد حياةٍ روحيةٍ تجيب عن أسئلتها، هي التي فقدت والدها مراهِقةً وعاشت إثر ذلك أزمة وجودية أفقدتها الإيمان. لكنّ اكتشافها الفيلسوفين، سبينوزا وكانط، وقراءتهما هدياها لاحقا إلى إجاباتٍ مقنعة ومرجوّة. مع انتهاء عام 1880، سافرت، برفقة والدتها، لدراسة تاريخ الفن واللاهوت والفلسفة في جامعة زيوريخ التي كانت من الجامعات الأوروبية القليلة التي تستقبل النساء، لكنها توقّفت عن متابعة دروسها إذ مرضت. أنقذتها شهوة العيش وحبّ الحياة فكتبت في عزّ مرضها قصيدة تقول: "أحبك أيتها الحياة الغامضة/ كما نحبّ صديقا / سواء منحتني الفرح أو الألم/ سواء منحتني الفرح أو العذاب".
لاحقا، انتقلت "لو" إلى روما، حاملة رسالة توصية من أستاذها، ما أدخلها في أهم الأوساط الثقافية والفنية الأوروبية، حيث بدأت أهم مراحل حياتها. تعرّفت إلى الفيلسوف الإيجابي بول ريه الذي أغرم بها، فكتب إلى صديقه نيتشه يخبره عنها، فما لبث أن أغرم بها هذا الأخير بدوره عندما التقاها. رفضت "لو" عرض الصديقين الارتباط بها، لكنها اقترحت أن يشكّلوا معا ثلاثيا عازبا مثقفا وأن يتساكنوا، فوافقا. أثار الأمر استياء حلقة ريتشارد فاغنر، وكانت إليزابيت شقيقة نيتشه من بين أعضائها، فأعلنت حرب تشهير شرسة على لو سالومي، استمرّت حتى وفاة هذي الأخيرة التي لم تردّ عليها بتاتا أو تدافع عن نفسها. والحال أن علاقة نيتشه بها كانت مهمّة ومعقدة، فبرغم قبوله مثلّث الصداقة الذي اقترحته، عازيا الأمر إلى كرهها الزواج، وإلى كونه يكبرها بـ17 عاما، عاد وطلب يدها، فصدّته هذي المرّة من دون مواربة وأفهمته أنها لن تتزوجه أبدا. قبل نيتشه على مضض واستمرّت صداقتهما ونقاشاتهما وكان معجبا بذكائها المتّقد، ما كان يوقظ مشاعر الحب والرفض لديه في آن، وما أدى إلى تدهور حالته: "بقوة إرادتها وذكائها الاستثنائي، هي مقدَّرة لمصير كبير، لكن بأخلاقيتها، فإن السجن أو المصحّ يناسبانها أكثر". بعد مضيّ سنوات، نشرت "لو" روايتها الفلسفية النفسية الأولى، "في المعركة من أجل الإله"، ما شهرها وأدخلها مزيدا من الدوائر الفلسفية والأدبية، وأوقع مزيدا من العباقرة في حبّها. عام 1887، التقت فريديرش كارل أندرياس، أستاذ الدراسات الشرقية، الذي أقنعها بالزواج منه بعد أن هدّدها كما يُروى، بطعنها في القلب، فقبلت شرط ألا يمسسها، وهو ما تم حتى وفاته عام 1930.
الحب الحقيقي الوحيد الذي عاشته لو سالومي كان مع الشاعر ريلكه، في أثناء زواجها، وكانت في السادسة والثلاثين من عمرها وهو في الواحدة والعشرين عندما التقيا. أغرم بها هو فورا وكان قد قرأ أعمالها، ثم أهدى إليها كل قصائده وغمرها برسائله الرومنطيقية، إلى أن أحبّته واستمرّ عشقهما ومن ثم صداقتهما حتى وفاة الشاعر عام 1926. وعندما تعرّفت إلى فرويد عام 1911، كانت "لو" أكثر شهرة منه، ومطّلعة على خبايا النفس البشرية قبل اكتشاف علم التحليل النفسي، وهو ما تُظهره أعمالُها مثل "بطلات إبسن" و"إيروتيكا"، وسيرتي نيتشه وريلكه. لقد اعتبرها فرويد من أفضل تلاميذه، وكانت المرأة الوحيدة التي قُبلت في "حلقة فيينا"، وقد مارست العلاج بالتحليل النفسي في ألمانيا، حتى بلغت عامها الرابع والسبعين، ووافتها المنيّة بعد ذلك بعامين.
أنتجت "لو" أكثر من 12 رواية ودراسات عديدة، ناهيك عن مراسلاتها الشائقة مع رجال حياتها، فكانت امرأة حرّة قبل الأوان، دعت إلى إعادة التفكير بأدوار الجنسين. وقد رفضت الحركة النسوية أفكارها، لأنها كانت تدافع عن اختلاف المرأة عن الرجل، وليس عن المساواة، ذلك أن المرأة ستتحرّر بتأنيث العالم. كانت بالنسبة إلى نيتشه "الأكثر ذكاء ممّن عرفتُ"، وفي نظر ريلكة "امرأة استثنائية لم يكن تطوّري، لولاها، ليأخذ السبل التي أوصلتني إلى أشياء كثيرة".