"ًصنايعية مصر" .. كتابة تصنع الأرشيف
"مَن الذي أطعم المصريين البطاطس "الشيبسي"؟ ووضع في جيوبهم علب "المناديل"؟ وكسا أقدامهم بأحذية "الكوتشي"؟ وألهمهم التقرّب إلى الله بمبردات ماء "كولدير"؟".. بهذه الأسئلة، لمس الكاتب عمر طاهر مقدّماً أوتاراً لدى كل مصري يسمع عن كتابيه "صنايعية مصر"، وقد صدر الأول منهما عام 2017، والثاني عام 2021. قد توحي النظرة الأولى بكتابة خفيفة موجهة إلى الشباب تركز على "النوستالجيا"، كما في كتب سابقة أخرى للكاتب، إلا أن القراءة تكشف عن أن المشروع أكبر بكثير.
يقدّم الكتابان سيراً لعشرات الشخصيات التي ساهمت في صناعة مصر الحديثة، رواد الصناعة والزراعة والتخطيط العمراني، وكذلك رواد الفن والتعليم والمقاومة الشعبية. ويتميزان بجهد بحثي غير مسبوق في مجاله. قال الكاتب إنه ألزم نفسه بقاعدة أن يكون الكتاب "صانعاً للأرشيف أكثر من مجرّد مستخدم له"، وهو ما حدث بالفعل، فسيرة كل شخصية هي نتاج رحلات بحث مطوّلة عن أسرة كل منهم، وعبر الأسرة قد يحصل على مواد خاصة من صور ووثائق، أو يزور موقع الحدث، ولا ينفي ذلك وجود محتوى أرشيفي كبير يشمل ما نشر بالصحف من مقالات وإعلانات معاصرة.
وللمفارقة صار الكتابان في عصر "السوشيال ميديا" ليسا صانعَين للأرشيف فقط، بل "صانعا التريند" أيضاً، فالعديد من مواده تحوّل إلى منشورات ذائعة الانتشار على مواقع التواصل، بعضها تسرقها صفحات تحصد ملايين القراء، من دون اهتمام بالحقوق الأدبية، فضلاً عن إشكالات تناولها مبتورة خارج السياق.
اعتدنا على كتابات تاريخية تركز على الزعيم، بينما ينقلب الهامش في الكتابين متناً، وتُنسب الإنجازات لصانعيها المباشرين، لا لتوجيهات السيد الرئيس، فهو تأريخ شعبي حقيقي، وإن لم يسمّ الكاتب نفسه مؤرّخا.
ورغم أن أغلب الشخصيات ليست "ملح الأرض"، بل منهم كبار رجال المال أو من تولوا مناصب رسمية، لكن منهجية المشروع تقتصر على من جرى إغفالهم عمداً أو إهمالاً من أدوات صناعة الدولة للثقافة من إعلام ومناهج دراسية وغيرها، كما تجاهلهم إنتاج النخب الإعلامية والثقافية في مجملها.
لذلك رفض الكاتب بشكل قاطع اقتراحاً كتبه "نيوتن"، الاسم المستعار الذي كان يكتب تحته رجل الأعمال المصري صلاح دياب، بأن يكتب سير رجال الأعمال المعاصرين. قال عمر طاهر إن هؤلاء أخذوا حقهم كاملاً، ولديهم صحف وقنوات ودور نشر بكتّابها، بينما هو يكتب فقط عن "المجهولين الراسخين في وجدان الشعب".
ورغم أن قارئاً مثلي افتقد وجود المساءلة النقدية في بعض المواضع، مثل تجربة إنشاء التلفزيون المصري في عهد جمال عبد الناصر، أو زوايا عديدة بتجارب كبار الرأسماليين، إلا أن ذلك يتسق مع منهجية المشروع التي اختارها الكاتب، والتي تقضي بالتركيز على سرد المعلومات والأحداث، بينما يكاد يختفي صوته التحليلي، مكتفياً بالتنوع الشديد في المحتوى، تاركاً الحكم للقارئ.
وهكذا احتوى الكتابان سير أجانب ومصريين، عصاميين ووارثين، مدعومين من الدولة أو معارضين، من تمت ضدهم التأميمات ومن قاموا بالتأميم، من صعدوا ومن هبطوا بمختلف العهود. نجد سير وزراء في الدولة بجانب سير أبسط المواطنين، مثل دور سيدات السويس في المقاومة الشعبية إبان العدوان الثلاثي.
ومن محصلة الصورة الضخمة، وكذلك خلفية بحثية أدمجت في السياق أرقاماً وإحصاءات ومصادر، خاصة بالكتاب الثاني، يمثل المشروع كنزاً حقيقياً للباحثين الذين يمكنهم استكمال ذلك الجهد للإجابة عن أسئلة تتنوع فيها الرؤى مثل: هل كان الأجانب إضافة اقتصادية حقيقية أم كانوا مستغلين لامتيازات الاستعمار؟ هل كانت السياسات الناصرية إنجازاً أم وبالاً؟ هل ما قدمه السادات كان "إصلاحاً"؟
وفي المجمل، يستحق الكاتب عمر طاهر إعجاباً خاصّاً بحسه الرسالي في هذا المشروع الذي استغرق سنوات من الدأب، فنحن نتحدّث عن كاتب متحقّق، لطالما ظهر في قوائم الأعلى قراءة، كما أنه كتب سيناريوهات بعض أنجح الأفلام والمسلسلات في السنوات الأخيرة، وكان بإمكانه بذل جهد أقل والحصول على عوائد مادية أكبر في بدائل عدة، لذا وجب شكر الصنايعية وشكر جامع سيرهم.