ملكة بريطانيا تحت المحاسبة
صحيحٌ أن وفاة الملكة إليزابيث الثانية أعادت النقاش في محاسبة الإرث الاستعماري للإمبراطورية، وهو حق تاريخي وأخلاقي للشعوب المقهورة، إلا أن ما يقصده هذا المقال هو المحاسبة بمعناها المالي البحت.
بإمكاني ببضع نقرات أن أقرأ تقارير مفصّلة عن دخل الأسرة المالكة في بريطانيا وإنفاقها. وهكذا نعرف أن دخلها الرئيسي يأتي مما تسمّى "المنحة السيادية"، والتي تقدّمها الحكومة من أموال دافعي الضرائب، لكن هذه المنحة تحدّد قيمتها كنسبة محدودة من إجمالي الأملاك الملكية (كراون ستيت) التي يذهب كامل دخلها إلى الخزانة العامة، أي لدافعي الضرائب مرة أخرى.
كانت قيمة المنحة السيادية تقتصر على 15% فقط من دخل ممتلكات التاج، لكن حاجة قصر باكنغهام وقصور ملكية إلى أعمال ترميم وتجديد باهظة بقيمة نحو 369 مليون إسترليني أثارت اعتراضات شعبية وبرلمانية على تمويل تلك الأعمال من الأموال العامة، ما انتهى بالتوافق على زيادة المنحة إلى 25% من قيمة دخل ممتلكات التاج مؤقتاً عشر سنوات فقط، تبدأ عام 2017.
وهكذا بلغت قيمة المنحة السيادية في العام المالي 2020 – 2021 حوالي 86 مليون جنيه إسترليني، تمثل ربع دخل ممتلكات التاج التي تبلغ قيمتها نحو 34 مليار جنيه إسترليني، تشمل محالا تجارية ومكاتب في قلب لندن، وضيعات زراعية، وغيرها، وهي بحكم قانون صدر عام 1760 غير خاضعة لتحكم الأسرة المالكة، أي لا يمكن بيعها، بل تديرها جهة مستقلة، وتحول كامل دخلها إلى ميزانية الحكومة.
يأخذنا هذا إلى بنود الإنفاق، حيث يذهب نحو 65% من أموال المنحة السيادية إلى أعمال صيانة القصور والقلاع، ثم يذهب أكثر من 20% إلى بند رواتب العاملين بالمنشآت الملكية والبالغ عددهم نحو 2300 موظف، بينما من نصيب نفقات السفر نحو 5%. بل إن من المتاح معرفة كلفة كل سفرية ملكية، ووسيلة النقل التي تم استخدامها بها. على سبيل المثال، نقرأ تفاصيل سفر الملك تشارلز، حين كان وليا للعهد، إلى الكويت، لأداء واجب العزاء بوفاة أميرها صباح الأحمد عام 2020، وقد تكلفت هذه الرحلة نحو 51 ألف جنيه إسترليني.
كل هذه الأرقام جزء من النقاش العام في وسائل الإعلام وأروقة الحكومة والبرلمان بشأن مزايا النظام الملكي وعيوبه. الأرقام قاطعة بشأن أن الفائدة المالية البحتة للملكية أكبر بكثير من كلفتها، فإذا كانت تكلف المواطن نحو 1,2 جنيه إسترليني سنويا فقط، فإنها تعود عليه بأضعاف ذلك، سواء بدخل ممتلكات التاج، أو بالدخل غير المباشر عبر السياحة وبيع المنتجات المرتبطة بالملكية. إلا أن أسبابا أخرى يرفعها رافضو النظام الملكي، بعضها سياسية وتاريخية، وبعضها أسباب أخلاقية، حيث لا يجوز أن ترث أسرة السلطة من دون انتخاب مهما كانت سلطاتها رمزية أو مقيدة.
هذه الطبقات من الرقابة والمساءلة تخضع لها من باب أولى الحكومة المنتخبة، وقد شهدنا أخيرا استقالة رئيس الوزراء، بوريس جونسون، بسبب سلسلة فضائح، منها مساءلته حول مصدر تجديدات قام بها في منزله الحكومي بقيمة نحو 200 ألف إسترليني، بينما خُصصت له ميزانية حكومية قدرها 30 ألفا فقط. ورغم أنه نجا من المحاكمة القانونية بعد إفصاح رجل أعمال داعم لحزبه أنه من دفع الكلفة، فإنه لم ينج من المحاكمة السياسية وخسر مقعده.
سردتُ غيضا من فيض نظامٍ قواعده صارت محسومة، فلا تتقدّم دولٌ بغير مساءلة الحكام، وشفافية المعلومات، وحريات صحافية وسياسية، في مقدمتها التغيير بانتخابات نزيهة، يتنافس فيها الحكام على صوت المواطن دافع الضرائب.
وصل الإنكليز إلى ذاك النظام عبر قرون من التدافع، والحروب الأهلية، والتي شهدت ملوكا فقدوا رؤوسهم، لا عروشهم فقط، لكن لكل عصر وبلد طريقهما. فليكن اسم ذاك النظام الديمقراطية، أو الملكية الدستورية أو غير ذلك، ولتكن عيوبه ونواقصه أيا ما تكون. هذا ما نحتاجه لبلادنا التي من الأوْلى بها الانشغال بحديث الحاضر لا الماضي، وبواقعنا لا بنقاشاتٍ فلسفيةٍ عن واقع غيرنا.