رسائل "الربيع الفارسي"
إذا كانت النار تأكل نفسها إذا لم تجد ما تأكله، فهل تأكل الدول المستبدّة نفسها؟ قبل أيام أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عن اعتقال فائزة رفسنجاني، ابنة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، بتهمة "تحريض مثيري الشغب على الاحتجاجات في الشوارع". .. وتركّز التغطيات الإخبارية على دلالة مشاهد حرق الحجاب، والتي تؤكّد ميلاد جيل جديد أكثر شجاعة وتمرّدا، لكنها نحتاج نظرة أوسع إلى السياقين السياسي والتاريخي.
ولد النظام الإيراني مشوّها منذ البداية، فالحاكم الحقيقي هو المرشد الأعلى، وهو يحكم طوال حياته، ومن دون انتخابات شعبية مباشرة، بل ينتخبه "مجلس خبراء القيادة"، وفضلا عن صلاحياته الواسعة، فإن القوة العسكرية والاقتصادية الهائلة للحرس الثوري الإيراني تتبعه مباشرة.
أما الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فإنها فضلا عن صلاحياتها المنقوصة لصالح المرشد، فإنها ليست ديمقراطية، بل تم من المنبع منع المرشحين أو السماح لهم على يد "مجلس صيانة الدستور"، وهو مكون من 12 عضوا يعيّن المرشد ستة منهم من رجال الدين، والستة الباقون من القضاة.
رغم هذا الوضع العجيب، وكذلك ما واجهه النظام من معارضة حادّة في بدايته، كانتفاضة النساء ضد فرض الحجاب بالقانون، عام 1979، إلا ان النظام استمرّ، بفضل تجييش الدوافع الوطنية والدينية، خصوصا في فترة حربه مع العراق، وكذلك بفضل حفاظه على توازنات بين تياراته المحافظة والإصلاحية. ولكن مقدّمات ذلك المسار تؤدي إلى نهاياتها. وتدريجياً تم إقصاء التيار الإصلاحي بأشد الطرق فجاجة، رغم أن بعض أهم رموزه من رجال الدين أصلا، ومنهم من تولى أعلى المناصب سابقا.
في المقابل، لعلها ليست مبالغة وصف إيران بأنها تشهد منذ أكثر من عقد انتفاضة متصاعدة، بدأت منذ أحدث انتخابات 2009، والتي شهدت مظاهرات ضخمة استجابة لدعوة المرشّحيْن، مهدي كروبي ومير حسين موسوي، اللذين أكدا أن الانتخابات جرى تزويرها لصالح المرشّح المحافظ أحمدي نجاد.
لاحقاً، تعاظمت المأساة الملهاة بإقصاء نجاد بدوره لصالح الأكثر تشدّدا، فتم رفض أوراقه للترشح لفترة ثانية عام 2017! .. وهكذا بدأ منع الترشح بغير الإسلاميين، ثم امتد إلى الإصلاحيين، ثم امتد إلى المحافظين الذين على غير هوى المرشد. .. دائرة المزايدة لا تنتهي أبدا.
نجحت قبضة القمع الهائل في إخماد الاحتجاجات مؤقّتا، لكن النيران ظلت تظهر من تحت الرماد مرارا، كانت أحدثها انتفاضة عام 2019، بسبب رفع أسعار الوقود، ثم وصلنا إلى الأحداث الجارية.
إجهاض أي إمكانية إصلاح من داخل النظام تشبه رهان نظام صدّام في العراق، أو الأسد في سورية، حيث "الأسد أو نحرق البلد". يصعّب هذا كثيرا مهمة المحتجين، فلا أجسام سياسية أو قادة، لكنه في المقابل يرفع الخطورة ضد النظام، فلا خروج آمن. لا إجابة سهلة على السؤال حول أي السيناريوهين أرجح، وقد شهدنا تحقّق كليهما في تجارب شبيهة حول العالم.
ولكن من الجدير بالإسلاميين تحديدا أن يتأملوا في مآل تلك التجربة، التي لطالما اعتبروها سابقا نموذجا لما يطمحون إليه، ولطالما امتدح بعضهم نموذج فرض الحجاب ونموذج حظر من يسمّونهم "العلمانيين" في مجلس صيانة الدستور.
إبّان حملته للترشّح للرئاسة في مصر، كرّر الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل أنه سيفرض الحجاب بالقانون بعد فترة دعوية، لأن "المتبرّجة تعتدي على عفّة المجتمع"، وواجبه كرئيس أن يصلح للناس دينهم ودنياهم.
وفي كتابه "الإسلام بين قرنين"، احتفى الشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله، بنموذجي إيران والسودان، ورغم أن النظام السوداني انقلاب على حكم ديمقراطي، لكنه اعتبرهما "ثورتين إسلاميتين". ولاحقا راجع الشيخ موقفه من إيران وحزب الله بعد دورهما في المجازر الطائفية في سورية، لكن مراجعات أعمق تنتظر من يقوم بها.
لن يجدي التحجّج بأنه نموذج شيعي لا يعنينا، أو بحجّة أن الظروف في هذه اللحظة غير مناسبة. الإسلاميون خصوصا، وكل التيارات التي تدّعي وصلا بالديمقراطية والربيع العربي عموما، مدعوّة إلى النقاش والمراجعة، واستلهام التجارب، لطرح إجاباتٍ واضحةٍ على السؤال الأزلي: من نحن وماذا نريد؟
أما الربيع الفارسي فله شعبٌ يحميه، وإن طال الزمن.