أبعدُ من ريان
لم يكن يدور في خلد أحد أن تتحوّل قرية إغران في إقليم شفشاون، شماليّ المغرب، إلى قبلة شدّت انتباه ملايين المغاربة والعرب ومختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية، بعد أن أخرجتها واقعة الطفل ريان أورام، الذي سقط في بئر عميقة وضيقة لا يتجاوز قطرها 30 سنتيمتراً، من الظل، وجعلتها تتصدّر عناوين الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي.
حبست الواقعة أنفاس المغاربة خمسة أيام وهم يتابعون محاولات عناصر الوقاية المدنية (الدفاع المدني) ورجال السلطة وعشرات التقنيين والمهندسين والخبراء والعمال والمتطوّعين لإنقاذ الطفل ريان. وللإنصاف، بذل كل هؤلاء جهوداً محمودة لانتشال ريان وإعادته حياً إلى حضن أسرته. وعلى الرغم من نجاحهم في الوصول إلى الطفل وإخراجه، إلا أن الفرحة لم تكتمل بعد أن أعلن الديوان الملكي المغربي، في بلاغ (بيان) رسمي، وفاته، ما شكّل صدمة شعبية كبرى تخطت الحدود المغربية، بعد أن تابع العالم لحظة بلحظة عملية انتشاله من البئر.
كشفت واقعة ريان عن بقع ضوء كثيرة لا يزال في الوُسع الاهتداء إليها، على الرغم من مظاهر التراجع والتردّي في الحالة المغربية، والعربية بشكل عام، فكانت مشاعر التضامن مع الطفل وأسرته المفجوعة منقطعة النظير. ولا مبالغة في القول إن الجهود التي بذلتها السلطة، بمختلف مستوياتها، لإنقاذ ريان كان لها دور في توسيع قاعدة هذا التضامن، بعد أن أعطت صورة إيجابية عن دولةٍ جنّدت كل ما يتوافر لديها من موارد بشرية وتقنية لإنقاذ طفلٍ عالقٍ داخل بئر مهجورة. وإذا كانت الواقعة قد أشّرت على حضور قوي لأجهزة ومؤسسات بعينها في الدولة، فإنها، في الوقت ذاته، أكدت، بالملموس، تراجع مؤسسات الوساطة والتأطير التقليدية وافتقادها الكيفيات الناجعة للتفاعل مع الحدث، في ظل حجم التضامن الوطني والدولي مع ريان في محنته. وعندما سعى بعضها للتحرّك، كان الأوان قد فات، فاكتفت بالتنويه بجهود فرق الإنقاذ وتعزية أسرة الفقيد. ولم يكن أداء الحكومة المغربية أحسن حالاً من هذه المؤسسات، فقد بدت، هي الأخرى، مرتبكة وعاجزة عن أخذ مبادرة في مستوى الحدث وتداعياته، ولا سيما بعد أن أصبحت الواقعة تتصدّر عناوين الصحافات الدولية وتشغل الرأي العام الوطني والعربي والدولي.
كشفت الواقعة أيضاً السلطة التي بات يحوزها الإعلام الاجتماعي، فتصدّرت صورة ريان ملايين التدوينات والهاشتاغات بلغات مختلفة. وقد أعطى ذلك للحدث زخماً شعبياً واسعاً، ما كان ليتحقق بواسطة وسائل الإعلام التقليدي. بيد أن ذلك لم يمنع من تسجيل انزلاق بعض المنابر الإعلامية نحو سلوكيات مشينة، زاغت عن أخلاقيات المهنة وفضّلت استغلال مأساة ريان والمتاجرة بها من دون خجل، من خلال بثِّ أخبار زائفة أو غير موثوق منها، من دون التأكد من صحتها، في مسعى إلى البحث عن الإثارة وحيازة سبقٍ صحافيٍّ مشبوه ومضاعفةِ أعداد متابعيها على منصّات التواصل الاجتماعي وتحقيق الربح المادي.
من ناحية أخرى، أعادت هذه الفاجعة إلى الواجهة المغرب العميق بكل تناقضاته التنموية والاجتماعية والمجالية، إذ بدت قرية إغران، مسقط رأس ريان، نموذجاً لمئات القرى والمداشر والمناطق الجبلية الوعرة، الغارقة في الفقر والهشاشة والبؤس والنسيان، في وقتٍ تحظى المدن والحواضر الكبرى بنصيب الأسد من عائدات سياسة المشاريع الكبرى التي تنتهجها الدولة منذ سنوات. وبقدر ما يسائل ذلك حدودَ هذه السياسة وآفاقها، يستدعي أيضاً ورشة الجهوية المتقدّمة، التي يبدو أن حضورها في الندوات والمؤتمرات والأطروحات الجامعية يفوق بكثير ما هي عليه على أرض الواقع.
بعد هذه الفاجعة، باتت الدولة والحكومة والنخب والمجالس المحلية مطالبة بالانخراط في سياسةٍ جهويةٍ أكثر واقعيةً ونجاعة، تتصدّى للاختلالات المجالية التي تعصف بالمناطق النائية، وتحول بينها وبين تحقيق أبسط شروط العيش الكريم.