أبعد من استقالة وزيرٍ مغربي
أثارت استقالة وزير الدولة المغربي المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، مصطفى الرميد، من مهامه الوزارية، استفهاماتٍ كثيرة بشأن توقيتها، وصلتها بما يحدث داخل حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة منذ عشر سنوات. ولعل ما يزيد هذه الاستقالة التباسا تزامنها، من جهة، مع استقالةٍ أخرى تقدّم بها إدريس الأزمي من رئاسة المجلس الوطني للحزب، ومن أمانته العامة. ومن جهة أخرى، مع ما صرّح به أخيرا رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، حين اعتبر أن ''الربيع العربي لم ينته''، وأن ''الحكاّم المتسلطين سوف يأتي يوم يبحثون فيه عن أرض تؤويهم ولا يجدونها، ويبحثون عن ظلٍّ ولا يجدونه''.
وعلى الرغم من أن الرميد قد تراجع عن قراره، إلا أن الواقعة أثارت جدلا واسعا داخل الرأي العام المغربي، خصوصا بعد تسريب وثيقة الاستقالة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ بدا الأمر وكأنه تخطٍّ للمقتضيات الدستورية التي تؤطّر علاقة الوزراء برئيسيْ الدولة والحكومة. هذا إضافة إلى استقالاتٍ سابقة كان قد تقدّم بها الرميد، من مواقع مختلفة شغلها، قبل أن يتراجع عنها أيضا. ما يثير تساؤلات بشأن توقيت هذه الاستقالة ومغزاها، على الرغم من استنادها إلى ''دواعٍ صحية''، كما جاء في وثيقتها المُسرّبة. وتتسع دائرة التساؤلات في ضوء ما خلفه توقيعُ الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، على اتفاق التطبيع مع إسرائيل من ارتجاجٍ تنظيميٍّ غير مسبوق داخل الحزب.
لا تكشف واقعة الاستقالة، فقط، حجم التصدُّع داخل "العدالة والتنمية"، بل يكشف، كذلك، عجزه عن تدبير المرحلة الحالية، بما فيها من ضغوط تستنزفه، وتدفع به نحو حالةٍ من الإجهاد التنظيمي قد تكلفه غاليا، على بعد أشهر قليلة من الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والبلدية. ومن هنا، يغدو طلب الاستقالة من حكومةٍ، تعيش النزع الأخير من ولايتها الثانية، بمثابة محاولة للعب في الوقت الضائع، وهروب إلى الأمام، في ظل عجز الحزب عن إعادة صياغة منظومته الفكرية والنظرية، بعد أن وجد نفسه في ورطةٍ أخلاقية وسياسية، بحجم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وحين يقول بنكيران إن الربيع العربي لم ينته، فهو يعي جيدا ما يقول، ويدرك أن الدولة العميقة، وإنْ كانت قد أعادت جدولة أولوياتها بعد انحسار مد الربيع العربي، إلا أنها تراقب ما يحدث في محيطها الإقليمي، ولا ترغب في عودة الاحتجاج إلى الشارع كما حدث في 2011، مثلما لا ترغب في رؤية الحزب يقود ولايةً حكوميةً ثالثةً. وبالتالي، ينطوي ما صرح به على أكثر من رسالة، سواء باتجاه هذه الدولة أو المجتمع، سيما بعد تآكل الرصيد الشعبي للحزب، وتقلصِ قاعدته الانتخابية، بسبب إخفاقه في مكافحة الفساد، وفي تحسين الوضع المعيشي والاجتماعي للمغاربة.
تدرك قيادات "العدالة والتنمية" أن مياها كثيرة جرت تحت جسوره، إبّان العقد الذي قضاه على رأس الحكومة، فقد نجح الجناح البراغماتي (السياسي) في فرض استراتيجيته القاضية بالاندماج السلس في منظومة النخب المغربية، وطمأنةِ المواقع المحافظة داخل مؤسسات الدولة، والالتزامِ بقواعد اللعبة السياسية كما تضعها السلطة. هذا في الوقت الذي تراجع فيه تأثير التيار الدعوي على مواقف الحزب. وكان ملف التطبيع مع إسرائيل اختبارا حاسما في هذا الصدد، إذ نقل الصراع بين الجناحين إلى طوْرٍ يهدّد بتفجير الحزب من الداخل، في ظل تنامي مشاعر التذمر داخل حركة التوحيد والإصلاح التي تعتبر التطبيع خروجا سافرا عن مقتضيات المرجعية الإسلامية التي يتوسّل بها الحزب.
تخلط استقالةُ الرميد الأوراق داخل "العدالة والتنمية"، وتدفع الوضع التنظيمي إلى مزيد من التأزم. ولا يبدو أنه يملك من الموارد ما يساعده على تخطّي تبعات ذلك، بعد أن تكلّست تنظيماته الموازية، وانفضَّ عنه طيفٌ واسعٌ من قواعده وأنصاره والمتعاطفين معه. وهو ما سيجعله يصل إلى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة منهكا وعاجزا عن مجاراة خصومه الذين يتوزّعون على أكثر من موقع.