أبناء الوحوش
يحدُث أن يتآمر القدرُ ضدّك، فيجعلك تولد ابنا لوحشٍ لا شاغل له إلا تعميم الخراب ونشر الهلاك من حوله. تخيّل مثلا أن تكون ابنًا لرجلٍ مثل جوزف ستالين، أو قريبا مقرّبا من أدولف هتلر، حين لا تكون جيناتُ التوحّش قد انتقلت إليك أو تركت أثرَها فيك. أبناءُ الطُّغاة الذين عرفنا بعضَهم في بلداننا، المولودون على صورة آبائهم، وحوشًا صغيرة مستبدّة من دون رحمة، ليسوا همّنا في هذي العجالة. كثر من هؤلاء استفادوا من مواقعهم ما استطاعوا، بل إن بعضهم كان أشدّ بطشا وأكثر توحّشا بعد توريثه السُّلطة. موضوعنا هو أولئك الأبرياء، "الضعفاء"، الذين لا حيلة لهم أمام رابط الدّم ولا ذنب لهم.
قلّة يعرفون عن ياكوف، الابن البكر لستالين، الذي مات قتلا في أحد معسكرات الاعتقال النازية. كان قد تجنّد في الجيش الأحمر، وتدرّج إلى أن أصبح ملازما أول، حين أسره الألمان الذين ظنّوا أنهم وقعوا على صيد ثمين. لكنهم، عندما اقترحوا مبادلته بضابط كبير أخذه السوفييت أسيرا في معركة ستالينغراد، رفض ستالين أيّ تفاوض، معتبرا أنه "لا يوجد أسرى حرب، هناك فقط خونة". منذ صغره، كان ياكوف منبوذا من أبيه، ماتت والدتُه صغيرا وربّته جدّته، وحين استقبله أبوه في عائلته، كان في الرابعة عشرة من عمره. ولم يكن ستالين يكنّ لولده البكر أية عاطفة، إذ كان يجده خجولا، هشّا، غير جديرٍ بأن يكون من صلبه. شابا، حاول ياكوف الانتحار بعد أن رفض ستالين تزويجه ممن يحبّ، وحين فشلت محاولته، علّق الوالد باحتقار: "هو لا يجيد عمل أي شيء كما يجب، حتى أنه لم يصوّب جيدا. يستحيل أن يكون بيننا أي شيء مشترك"!
في معسكر الاعتقال النازيّ، بلغت ياكوف أخبارُ المجزرة التي أمر الوالدُ بتنفيذها في مدينة كاتين البولونية، بحقّ 11 ألف ضابط بقوا في الجانب السوفييتي، إثر تقسيم بلادهم بين هتلر وستالين في سبتمبر/ أيلول 1939، فزاده الأمر يأسا وقناعةً بأن خلاصه مستحيل. كانت شروط اعتقاله قاسيةً جدا، فقرّر إنهاء حياته في ربيع العام 1940، برمي نفسه على الأسلاك الشائكة، حيث رماه الجنود الألمان بالرصاص. ولم يكن ياكوف ضحية ستالين الوحيدة ضمن العائلة، إذ من المعروف أيضا أن الزوجة الثانية لهذا الأخير، ناديا آلليلوييفا، وكانت تصغره بـ 23 عاما، ماتت منتحرةً بإطلاق الرصاص على نفسها، بعد مشادّة بينهما بشأن سياساته، إلا أن ستالين منع الجميع من نشر الخبر، معللا وفاتها بعارض صحّي سببه التهاب الزائدة الدودية ..
هتلر من ناحيته، لم يتزوّج إلا بعد هزيمته وقبيل انتحاره، ولم يُرزق بأبناء. بيد أن أخبارا كثيرة شاعت عن علاقة استثنائية ربطته بابنة أخته غير الشقيقة، أنجيلا روبال، التي ماتت منتحرة هي الأخرى، وهي في الثالثة والعشرين عاما. قيل إنها المرأة الوحيدة التي أحبّها هتلر فعلا، إنه كان على علاقة جنسية بها، وإن موتها ظهّر المسخَ الذي فيه، وجعله متخلّصا من أدنى المشاعر الإنسانية. لكن، ثمّة ما يعزّز نظريةً أخرى تشكّك بأنها انتحرت، وتنحو إلى أنه المسؤول عن موتها. ففي رواية صدرت العام الماضي بعنوان "ملاك ميونيخ"، يروي الإيطالي فابيانو ماسّيمي، مستندا إلى بحوث معمّقة في الأرشيف قام بها خلال ثلاثة أعوام، أنه سعى إلى فهم سبب تغييب ذكراها عن كل المراجع، إذ لا يوجد عنها برأيه "فيلم أو بحث أو مسرحية، في أية لغة. ومع ذلك، الكل كان يعرف مصير ابنة شقيقة هتلر في ألمانيا النازية: كانت فضيحة موتها كبيرة إلى درجة يصعب معها تجاهلها ببساطة. أعتقد بوجود إرادةٍ لتناسي الطريقة التي قُضي بها على حقّ شابة بالحصول على العدالة، من أجل تمهيد الطريق إلى الثورة السياسية". وبالفعل، لم يخلف انتحارُ الصبيّة المزعوم أيَّ تقرير طبي شرعي، أو أي تشريحٍ للجثة التي يقال إنها كانت مصابة بكدماتٍ عديدةٍ بادية الأثر على الوجه والجسد، هذا ناهيك عن اختفاء كل الوثائق المتّصلة بالحادثة عند تبوّؤ النازيين السلطة، وفي مقدمتها تحقيقُ الصحفيّ فريتز جرليش الذي توفّي في معسكر للاعتقال، عام 1934.