أصدقاء الليبي هشام مطر
ماذا يعني أن تُخلَقَ في بلادٍ معطوبةٍ، مسمومةٍ، يُقرّر مصائرَ أبنائها مستبدٌّ مهووسٌ بالسلطة أو بأوهام توسّعٍ وخلود؟ وما الثمن الذي عليك دفعه طوال عمرك، وجيلاً إثر جيل، حتّى ولو تسنّى لك أن تنفذ بجلدك، فتعيش مُتخفّياً وبعيداً آلاف الكيلومترات؟ وأخيراً، بماذا تصنع عيشَك، وبمَ تملأ أيّامَك، وكيف تتخلّص من فتوق الروح، التي خلفها منفىً قسريٌّ أقمت فيه رغماً عنك؟
هذه بعض أسئلة يطرحها الكاتب الإنكليزي/ الليبي هشام مطر (1970)، الحائز عدّة جوائزَ عالميةٍ مرموقةٍ، منها بوليتزر- قسم السيرة، عن عمله "العودة" (2017)، في روايته الصادرة أخيراً (2024)، بعنوان "أصدقائي"، والمُرشّحة حالياً لجائزة بوكر العالمية. ذلك أنَّ حدثاً رئيساً شكّل وعي الكاتب مراهقاً، وحدّد مصيره، بعدما أُرسل بهُويَّة مُزوَّرةٍ، حمايةً له، إلى مدرسة داخلية في انكلترا، إذ اختطف والده المُعارض بشدّة لنظام معمّر القذافي من شقَّته في القاهرة عام 1990، حيث جرى إخفاؤه وتصفيته. شكّل هذا الحدث المأساوي تقريباً المادةَ الصلبةَ والنواةَ التي تستند إليها أعمال مطر بمُجملها، فيحضر الواقعُ الليبي الأسودُ بخصوصياته خلفيةً لمعاناةٍ إنسانيةٍ خالصةٍ يرفعها الكاتب إلى ما بعد السياسي والتاريخي، لتلاقي معاناةَ الإنسان أيّاً كان انتماؤه.
في "أصدقائي"، نحن نتبع ثلاث شخصيات رئيسة، شاءت لها أقدارها أن تلتقي في لندن، وتربطها علاقاتُ صداقةٍ قويةٍ. "خالد" (19 عاماً)، الراوي، تحصّل على منحة لدراسة الأدب خلال بضعة أشهر في أدنبره، حيث يلتقي "مصطفى"، الذي يجرّه للمشاركة في مظاهرة مناهضة للقذافي أمام السفارة الليبية في لندن، ذات يوم من إبريل/ نيسان عام 1984. بيد أنّ الدبلوماسيين الليبيين أطلقوا النار عشوائياً على الحشد، ما أدّى إلى مقتل شرطية بريطانية (الحادثة حقيقية)، وإصابة عددٍ من الطلاب إصاباتٍ خطرةً، من بينهم "خالد" و"مصطفى"، فنقلا إلى المستشفى وبقيا فيها أسابيع. لقد أصبحت العودة إلى ليبيا مستحيلةً، وها هو "خالد" مضطرٌّ للإقامة في بلدٍ غريبٍ لا يعرف فيه أحداً، ولا يملك مالاً، ولا يجرُؤ على التواصل مع أهله لكي لا يُعاقبون هم أيضاً.
قبل ذلك بسنوات، في بنغازي، كان "خالد" قد استمع في السبعينيّات إلى مذيعٍ بارزٍ يقرأ في إذاعة بي بي سي البريطانية قصّةً قصيرةً لشاب يُدعى "حسام"، ينتقد فيها ديكتاتورية القذافي. سيُقتل مذيع بي بي سي على يد النظام الليبي، وسيستقرّ اسم "حسام" في ذهن "خالد"، وسوف يتعرّف إليه في أدنبره، بفضل زميله الليبي "مصطفى".
تلك هي الشخصيات الرئيسة، أمّا الرواية فتبدأ عام 2016، في محطّة كينغز كروس في لندن، حيث يلتقي "خالد" مصادفةً صديقه القديم "حسام" مغادراً مع زوجته وابنته إلى كاليفورنيا. يُودّعه "خالد"، ثم يخرج إلى شوارع لندن متجوّلاً في الأمكنة، غارقاً في ذكرياته وتأمّلاته، مُسترجعاً في "فلاش باك" طويل (هو الرواية) حياته وعلاقاته بمجموعة من الأصدقاء.
ما الذي يُعينُ على العيش في المنفى؟... الشحنة العاطفية التي يوفرها لنا الأصدقاء وتصنع لنا وطناً، والفضاء الذي نعيد تشكيلَه من ماضينا وحاضرنا، هذا ما يقوله لنا هشام مطر، إذ إنّ المنفى يرسم مساحةً داخليةً وجغرافيةً تُطوّر فيها الشخصيات علاقاتها فيصير الزمن شبه سائلٍ يتمازج فيه الماضي بالحاضر. فـ"حسام"، صاحب المجموعة القصصية التي أثّرت في الشباب، وابن العائلة الثرية وذات النفوذ في ليبيا، ترك الكتابة لأنّه فُرّغ من روحه، و"مصطفى" أصبح وكيلَ عقاراتٍ، والأصدقاء الثلاثة سيواجهون خياراً صعباً عند اندلاع الثورة في ليبيا. "مصطفى" سيعود إلى الوطن ليصبح مقاتلاً ثمّ قائدَ كتيبةٍ، "حسام" يقع في حُبّ الوطن والشعر العربي مرّة أخرى، وفي عشق ابنة عمّه التي سيتزوجها، أما "خالد"، مُحبّ الأدب والكتب وأستاذ المدرسة، فيقرّر قبول الحياة المتواضعة التي خلقها لنفسه في لندن، عازماً على أن يكون صادقاً مع نفسه. فعلى عكس المنفيين عامَّةً، يبدو "خالد" متصالحاً مع البلد الذي استقبله ثقافياً واجتماعياً (يرد ذكر "موسم الهجرة إلى الشمال" في أكثر من موضع)، فهنا يشعر بحدٍّ أدنى من الأمان، ولديه ما يحتاجه من صداقات ومكتباتٍ عامّةٍ ومقاهٍ وحدائقَ فسحاتٍ للتأمّل والتفكير. وفي هذا ربّما تكمن إحدى ميزات رواية "أصدقائي"، إذ ترتدّ السياسة إلى الوراء، مفسحةً لأبناء الأوطان المُخرَّبة، حيث الخوف خبزٌ يومي، أن يختاروا الحياة في المكان الذي يُوفّر لهم الشعور بالأمان، والحصول على القوت في أنواعه كلّها.