أملٌ يلوح
أخيراً، أحيا اغتيالُ أمين عام حزب الله، وزعيم الطائفة الشيعية في لبنان، حسن نصر الله، بيد قوات الجيش الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية لبيروت، قلقاً في نفوس معظم اللبنانيين، وخوفاً من الآتي، وإن كانوا في أعماقهم قد انتهوا إلى الاستنتاج القاتم؛ الآن تساوت الطوائف اللبنانية فيما بينها، وقد بات لكلّ طائفة زعيمها أو قائدها "الشهيد"، الذي باغتياله أعلنت نهاية مرحلة هيمنتها واستفرادها في السيطرة على المشهد السياسي في لبنان.
ففي 16 مارس/ آذار 1977، فقد الدروز رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي والحركة الوطنية في لبنان، كمال جنبلاط، بعد اغتياله إثر كشفه أمنياً ومنع مواكبته وحراسته من النظام السوري. لدى استطلاع موقفه من تشكيل حكومة يشارك فيها جنبلاط، بعد دخول قوات الردع العربية (السورية في غالبيتها) قال حافظ الأسد: "بوجود كمال جنبلاط لن يرتاح أحد، لا لبنان ولا سوريا ولا الرئيس سركيس نفسه، جنبلاط قد انتهى ويجب أن ينتهي" (كريم بقرادوني، "السلام المفقود: عهد إلياس سركيس 1976 - 1982"). كان هذا الاغتيال بداية تحوّل سياسي وعسكري كبير عنوانه الانفتاح على أحزاب الجبهة اللبنانية ضدّ تحالف جنبلاط وياسر عرفات، بعد أنّ كان النظام السوري داعماً لتلك الحرب ضدّها. الصراع على من يحكم لبنان كان سبب الخلاف بين الأسد وجنبلاط وعرفات.
وفي 14 سبتمبر/ أيلول 1982، اغتيل قائد القوات اللبنانية، الزعيم الماروني بشير الجميّل، بعد 21 يوماً على انتخابه رئيساً للجمهورية، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بواسطة عبوة ناسفة زُرِعت في بيت الكتائب في الأشرفية. القاتل المباشر هو حبيب الشرتوني، وقد اعتُقِل وسُجن ثمانية أعوام قبل أن تُطلِق سراحَه القواتُ السورية عام 1990. قيل إنّه موجود في سورية برغم حكم عليه بالإعدام من المجلس العدلي. قُيّدت القضية ضدّ مجهول، لكن المسؤولية أُلقيت (كما تدّل المُؤشّرات) مرّة أخرى على النظام السوري، وأجهزة مخابرات فلسطينية وسوفييتية وليبية.
وفي 14 فبراير/ شباط 2005، اغتيل الزعيم السنّي رفيق الحريري بعبوة ناسفة هو أيضاً، أدّت إلى تفجير سيارته في طريق السان جورج في بيروت. كان صعود الحريري قد بدأ منذ عام 1991، مترافقاً مع سيطرة النظام السوري المُطبِق وتحكّمه بالوضع اللبناني. في انتخابات عام 1996، أسّس الحريري قوّة شعبية ونيابية، ولم تنجح مهمة حصاره ومحاولة احتوائه من النظام السوري، بدليل صدور القرار 1559 عام 2004، وهو ما أدّى إلى اغتيال الحريري، ومن ثمّ إلى قيام "ثورة الأرز"، وانسحاب الجيش السوري من لبنان.
واللبنانيون على ما يبدو لا تعنيهم ملابسات القضايا، وبيد من جرى تنفيذ عمليات الاغتيال، بقدر ما تهمّهم النتائج التي تلي هذه الفاجعة أو تلك. فهم باتوا يهضمون بسرعة قياسية الانقلابات الكُبرى والتحوّلات العميقة في مجرى الأحداث، ذلك أنهم يدركون في العمق، أنّ بلدهم الصغير كان وسيبقى عرضة لرياح التوازنات الإقليمية والقوى العظمى، لذا يركّزون في عواقب الأحداث عليهم داخلياً، تلك التي تُغرقهم في كلّ مرة أمتاراً إضافية تحت مستوى الصفر، مع الانهيار الاقتصادي والأزمات المالية والتشرذم والانقسام السياسي والشعور باليتم والتخلّي، وبأنّهم متروكون لأنفسهم في العراء داخل عين العاصفة.
ومع ذلك، ثمّة أمل ضعيف واهٍ يلوح، وإن كانت المعطيات كلّها تعمل لدثره وإطفائه في نفوسنا، بأنّنا اليوم بتنا متساوين في الخسارات، وأنّ كلّاً منّا قد نال قسطه من الهيمنة والاندحار، من الاستقواء والهزيمة، وأنّنا ربّما، أخيراً، وجب أن نقنع بما تبقّى لنا؛ بلاد مهشّمة مفجوعة مشرّدة مفككة، لكنّها مع ذلك تبقى بلاداً، وتبقى بلادنا التي تستحق أن نحضنها أخيراً، نطبطب جراحها، ونطلب منها السماح. لعلّ وعسى!