أميركا إذ تُهادن المليشيات في العراق
منذ قرّر مقتدى الصدر الانسحاب من العملية السياسية (في العراق)، هو ومعه 73 برلمانيا من تياره فازوا في انتخابات أكتوبر 2021، وانتعاش آمال خصومه في "الإطار التنسيقي" (يضم قوى ومليشيات موالية لإيران)؛ وهناك هدنة غير معلنة بين فصائل المليشيات المسلحة والولايات المتحدة تمثلت في عدم وقوع هجمات مسلحة تستهدف السفارة الأميركية في بغداد أو معسكرات أميركية في أربيل (شمال) أو حتى قاعدة عين الأسد الأميركية في الأنبار (غرب)، ناهيك طبعا بعمليات استهداف أرتال الدعم اللوجستي التي كانت تتعرّض لتفجيراتٍ من حين إلى آخر.
جاء تشكيل حكومة محمد شياع السوداني ليضع حدّا لحالة الصراع السياسي "الشيعي - الشيعي" والتي أخّرت تشكيل الحكومة قرابة العام منذ انتخابات أكتوبر، لتكون حكومة "إطارية" خالصة لا يتخلّلها أي وجود صدري، وأيضا لتفتح صفحة جديدة من التعامل الأميركي مع الملف العراقي، والذي، على الرغم من انكفاء واشنطن عن الاهتمام به، ظلّ يشكّل هاجسا لدى دوائر القرار الأميركي، والتي كانت ترى ضرورة أن تعيد أميركا اهتمامها بهذا الملف، خصوصا مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما خلفته من تداعياتٍ متعدّدة الأوجه، ومنها التداعيات في سوق الطاقة.
تدرك واشنطن جيدا أن حكومة السوداني هي أقرب ما تكون إلى إيران، وأنها ستدار، في كثير من تفاصيلها، من زعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، والذي ما زال له القول الفصل في كثير من يوميات العراق، رغم أنه خرج من منصبه قبل نحو ثمانية أعوام بكارثةٍ ما زال العراق يدفع ثمنها، سيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة العراق، فضلا عن اختفاء مليارات كثيرة من خزينة الدولة العراقية.
تعرف الولايات المتحدة جيدا طبيعة حكومة السوداني، وتدرك قرب هذه الحكومة من إيران، لكنها مضطرّة للتعامل معها
زارت السفيرة الأميركية في بغداد، آلينا رومانوسكي، السوداني حتى قبل تشكيله الحكومة، وظهرت مدافعة ومنافحة عن هذه الحكومة، على الرغم من أنها، قبل غيرها، تعلم أن أسماء عديدة في التشكيلة الوزارية تنتمي لفصائل مسلحة متهمة بقصف المصالح الأميركية في العراق واستهدافها، وهو ما يؤكّد وجود دعم أميركي للحكومة الجديدة، على الرغم من كل ما عليها من ملاحظات أميركية قبل غيرها. وفي تصريح لها عقب نيل الحكومة الثقة، قالت السفيرة إن اتفاقية الإطار الاستراتيجي هي التي توجّه علاقات واشنطن مع الحكومة العراقية الجديدة.
وكانت نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي، جينيفر غافيتو، قالت، في الأسبوع الذي تلا تشكيل حكومة السوداني ونيلها الثقة البرلمانية، إن الولايات المتحدة لن تتخلّى عن العراق، مؤكّدة أن واشنطن تعتبر بغداد شريكا استراتيجيا.
تعرف الولايات المتحدة جيدا طبيعة حكومة السوداني، وتدرك قرب هذه الحكومة من إيران، لكنها مضطرّة للتعامل معها، خصوصا وأن معلوماتٍ كثيرة تواترت بشأن التعهدات التي قدّمتها قوى الإطار التنسيقي عبر السفيرة الأميركية، وصلت إلى حد تصريح مقرّبين من دهاليز السياسة العراقية بأن قوى "الإطار" وافقت حتى على الخطوات التطبيعية مع الكيان الإسرائيلي مستقبلا.
وبغض النظر عن صدقية هذه التسريبات، وإنْ كانت غير مستبعدة، خصوصا في ظل الدعم الواسع الذي حظيت به حكومة السوداني، فإن الولايات المتحدة لا ترى أي إشكالٍ في التعامل مع هذه الحكومة، حتى وإن ضمّت عناصر متهمة بالإرهاب أميركيا، فهذه ليست المرّة الأولى التي تتعامل بها واشنطن مع مثلهم، فقد سبق وأن تعاملت مع كبيرهم، قاسم سليماني، في العراق، في أثناء عمليات الحرب على "داعش" بداية من العام 2014، قبل أن تنتهي بتصفيته بضربة قرب مطار بغداد مطلع العام 2020.
باتت الولايات المتحدة اليوم أكثر قدرة على التحرّك في مساحة الجغرافيا العراقية، لم تعد هناك تهديدات من أطراف المليشيات المسلحة
لن يكون التعامل الأميركي مع حكومة السوداني صكّا على بياض، فمع محاولات قوى وتيارات شيعية مسلحة الاستحواذ على مناصب عسكرية وأمنية داخل الهيكل الجديد لهذه الحكومة، كان هناك ما يمكن تسميته تمرّدا أبداه السوداني تجاه مثل هذه الرغبات، كونه يعلم قبل غيره أن الدعم الأميركي لن يبقى بلا ثمن، حتى أنه أعلن عن توليه جهاز المخابرات الذي حاولت تلك القوى المسلحة الهيمنة عليه وتقديم عدّة مرشحين.
قد لا يبدو السوداني قادرا على كبح هذه المحاولات، ولكن حتى وإن ضعف واستسلم آخر المطاف، فإن هناك مكابح أميركية تمنع أن تمسّ مثل هذه التعيينات أمن الولايات المتحدة ومصالحها في العراق. أمر تدركه جيدا القوى والأحزاب والمليشيات المشكّلة "الإطار التنسيقي"، ولكنها تسعى، من خلال مثل هذه الضغوط، للحصول على مزيد من التنازلات من السوداني، ومكاسب في مواقع أخرى.
باتت الولايات المتحدة اليوم أكثر قدرة على التحرّك في مساحة الجغرافيا العراقية، لم تعد هناك تهديدات من أطراف المليشيات المسلحة، حتى وصل الأمر ببعض العراقيين إلى إطلاق حملة ساخرة عن نية واشنطن بيع منظومة الدفاع الجوي "سي رام" الموجودة في سفارتها ببغداد بعد انتفاء الحاجة لها.
السؤال الأهم، إلى متى يمكن أن تبقى هذه الهدنة بين أميركا والمليشيات العراقية الموالية لإيران؟ يبدو أن جواب هذا السؤال يرتبط بعدّة محدّدات، تبدأ من ملف إيران النووي ومسار الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في إيران منذ قرابة الشهرين، مرورا بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وصولا إلى إيفاء حكومة السوداني بتعهداتها لواشنطن.