أمّ عزيز
في السابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 1982، توقّف الوقتُ بالنسبة لآمنة حسن، المعروفة باسم أمّ عزيز، فيما استمرّت الحياة من حولها تجري بشكل طبيعي. جسدُها أيضا استمرّ يؤدي وظائفه الحيّة، لكنّ حياتها توقّفت مع توقّف الزمن عند ذلك التاريخ. الساعات كلّها بقيت تدور وتستهلك الثواني والدقائق والأيام، لكن رُزنامة آمنة أصيبت بعطل، إذ جعلت تشير إلى تاريخ واحد لا غير، بدا كل ما تلاه مجرّدَ كابوسٍ لم تستفق آمنة منه إلا في لحظة مماتها الذي حصل قبل أيام. لقد أضاعت آمنة أربعةً من أبنائها، واستمرّت تبحث عنهم من دون أن توفّق بجواب.
كانت قد تركتهم يفطرون صباحا، كانوا يأكلون بشهيةٍ ويتمازحون ويتناوشون كما يفعل الشبّان عادة. تنظر إليهم آمنة من بعيدٍ وتضحك، وأحيانا تناديهم أن يتركوا الصغير أحمد وشأنه، فهو لم يتجاوز بعد 13 عاما، فيما عزيز دعس في الثلاثين وأخواه إبراهيم ومنصور في عشرينياتهما. قالت في سرّها أن تتركهم وتذهب إلى سوق الخضار. فكّرت في ما عساها تعدّ لهم لوجبة الغداء أو العشاء، ثم بعدما استقرّ رأيها على طبخةٍ معيّنة، وضعت طرحتها وخرجت.
كان الطقس لطيفا، وإن كانت الشمس ما زالت تضرب الرأس. لم تعرف آمنة أن مجزرةً تجري على بعد أمتار، وأن الظلام كان يخيّم على مخيّمي صبرا وشاتيلا، حيث انفلتت كلابٌ مجرمة مسعورة راحت تطلق النار، وتذبح وتقتل كل ما يتحرّك أمامها، بحيث بلغ عدد الضحايا نحو ثلاثة آلاف ضحية، معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين. لم تعرف آمنة بالمقتلة الرهيبة، لكنها لم تُطِل البقاء خارجا، وحين عادت، لم تجد الأولاد. خرجت إليها زوجة ابنها مضطربةً خائفة، وأخبرتها أن جنودا جاؤوا وأخذوا "الشباب"، فيما اختبأت هي في خزائن المطبخ كي لا يروْها. حاولت طمأنتها: لا تخافي هم من الجيش، والجيش لا يرتكب أخطاء.
رمت آمنة الأكياس من يدها وركضت إلى الشارع. اشتعل قلبها. قد تلحق بهم، تتوسّل وتستجدي وتستعطف الجنودَ أن يتركوا أبناءها لأن لا علاقة لهم بتنظيم أو بحزبٍ أو بنشاط سياسي. أولادها لا يهتمّون سوى بأعمالهم وعائلاتهم، اسألوا الجيران عنهم، اسألوا أهل الحيّ. فقط لو أنها لم تخرج ذلك الصباح، لو بقيت ترْقبهم يأكلون، لكانت منعت من أتوا لاختطافهم من خطفهم. هي أمّ، ولهؤلاء أمّهات أيضا، ولا بد أن قلوبهم كانت سترقّ لو رأوها. لو بقيت، لكانت أنقذت الصغير ربما، الصغير على الأقل، ماذا تريدون من طفل؟ لو...
في الشارع، رأتهم يحمّلون الشباب في شاحنات. راحت تُنادي أولادها بأسمائهم، تركض وتصرخ وتتفقّد الوجوه. ستستردّهم من أيدي الخاطفين، تنتزعهم بالقوة، هم لا يعرفون مقدرة أمّ على التشبّث بأولادها. ثم سمعته. هذا صوت عزيز. "أنا هون يمّا"... عرفت صوتَه ثم لمحته، عزييييـز.... لكنّ ضربةً جاءتها من حيث لا تدري وأوقعتها أرضا. ظلّت عيناها مسمّرتين في وجهه، ورأت "الوحوش" يعتدون عليه، ويضربونه، ورأت الدماء تسيلُ منه، ثم انطلقت الشاحنة وأخذته. وأخذتهم. وأخذتها معهم. منذ ذلك الحين، هم لم يعودوا، هي أيضا لم تعد.
لقد قُتل من قُتل، وذُبح من ذُبح، وطوت القبور أشلاء مظلومين، لكنّ آمنة لم تتمكّن حتى من دفن أبنائها، من أن تبكيهم وتزور قبورهم، فبقيت تنتظر عودتهم، لأنهم، بالنسبة إليها، غائبون وليسوا موتى. الموتُ رحمة، كانت تردّد، الموت قدرنا جميعا، لكن من يغيبون ولا نعرف مصائرهم يعلّقون الوقتَ، يوقفون الأرضَ عن دورانها، ويُدخلون حيواتنا في ثلاجة الانتظار. لقد جمد الزمن بالنسبة لآمنة على صورتهم الأخيرة، جالسين معا إلى مائدة الفطور، كأنّ شيئا لن يحدُث لهم، لم يحدُث لهم، كأنهم سيخرجون إلى نهارهم ليعودوا إليها في المساء. الآن فقط ارتاحت آمنة من شقاء السؤال، الآن طوت أربعين عامًا ملأى بالفقد والانتظار.