أوهام أميركا والصين في عهد بايدن
الأوهام الأميركية، كما الصينية، المتعلقة بالنفوذ في العالم، هي التي تحدّد شكل السياسة الدولية في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن. ومن هذه الزاوية يكون تغيير الرئيس والحزب الحاكم في الولايات المتحدة مهماً، لأن أميركا ما زالت القوة الكبرى في العالم، وقائدة النظام العالمي القائم، وقطبه الوحيد منذ ثلاثين سنة.
بكلمات أخرى، الأوهام الأميركية ذات الطبيعة النرجسية بشأن إخضاع الدول، بما فيها الصين، للنظام العالمي الأميركي وحيد القطبية، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وعدم تجاوب الصين معها، هي التي كانت الدافع الحقيقي لسياسة الصدام الاقتصادي والتجاري مع الصين التي اتبعتها الإدارة السابقة. ولن يكون الأمر مختلفاً في عهد بايدن، ما لم تتغير تلك الأوهام، أو تتغير طبيعتها شديدة النرجسية. ولكن عاقلاً لن يتوقع أن تتغير تلك الأوهام الأميركية في عهد جو بايدن، فهي ليست فقط الأوهام نفسها التي تعمّقت منذ نجاح الولايات المتحدة في إطاحة الاتحاد السوفييتي بعد حربها الباردة معه، بل إنها هي ذاتها التي ظلت محرّك السياسة الخارجية الأميركية خلال عمل بايدن نائباً للرئيس أوباما ثماني سنوات، وقبلها رئيساً للجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي سنوات طويلة. بايدن وعقله السياسي ابن هذه الأوهام إذن، ومعه المؤسسات الأميركية العاملة في صياغة الاستراتيجيات السياسية للبلاد.
راحت الصين تسعى، بعد عشرين سنة فقط من الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم، إلى استعمال الأداة نفسها، أي الاقتصاد، لحجز مكانةٍ ما لها في مختلف القارّات
أما سبب اعتبارها أوهاماً، فإن ثلاثين سنة مرّت على تصور الولايات المتحدة أن الانفتاح الاقتصادي في الصين، منذ عهد زعيمها السابق دينغ شياو بنغ (ترك السلطة عام 1992)، سيدفعها إلى أن تكون جزءاً مطيعاً من النظام الذي تتزعمه الولايات المتحدة، كي تضمن استمرار نموها الاقتصادي وخروجها من الفقر والتخلف. ولكن ذلك لم يحدث؛ إذ بعدما نجحت الصين سريعاً في تعميق نموها الاقتصادي، وتحسين مستوى معيشة مواطنيها، راحت تسعى، بعد عشرين سنة فقط من الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم، إلى استعمال الأداة نفسها، أي الاقتصاد، لحجز مكانةٍ ما لها في مختلف القارّات، صحيح أنها غير واضحة المعالم والطموحات، إلا أنها بالضرورة تقع على الضد من المشروع الأميركي الذي سمّاه فرانسيس فوكوياما، مبكراً، "نهاية التاريخ".
ربما يكون الجانب الصيني أكثر عقلانية في ما يتعلق بامتلاك النفوذ في العالم، أو تغيير شكل النظام العالمي القائم لصالحه، لكنه يتوفر على أوهام محرّكة لسياساته هو الآخر، تجعل من غير الممكن استسلام الصين أمام الأوهام الأميركية من غير حربٍ اقتصاديةٍ شرسة، ستقود حتماً إلى تغيير شكل الحياة على هذا الكوكب، من زاوية إضرارها بالبيئة، وليس ظهور فيروس كوفيد 19 عن هذا ببعيد.
ليس ممكناً استسلام الصين أمام الأوهام الأميركية من غير حربٍ اقتصاديةٍ شرسة
ليس الرهان إذن على تغيير الأوهام الأميركية في عهد جو بادين، فهي لن تتغير، ولكن على تغيير طبيعتها شديدة النرجسية، كما عبّر عنها ترامب بخطابه وسلوكه تجاه الصين. هذا الأمر من المرجح أن يحدث، إذ أظهر الرئيس الجديد في الأسابيع الأولى من توليه السلطة سعياً حكيماً لإعادة الولايات المتحدة إلى ما قبل عهد ترامب. لكن مهلاً، فهذا ليس كل شيء. الصين ليست طرفاً بريئاً، فكما أن الولايات المتحدة تريد الصين عنصراً متلقياً ينفذ ما يصبّ في مصالحها السياسية، فإن الصين بدورها تريد أن تلزم الولايات المتحدة بقبول نفوذها الاقتصادي والتجاري في العالم، بما في ذلك المناطق التي تعتبر حليفة أو مجالاً حيوياً لأميركا، مثل أوروبا، وتريد من جهة أخرى أن تقدّم الولايات المتحدة، بشكل مباشر، ما من شأنه خدمة هذه التطلعات الصينية، كتصدير المواد الخام إلى الصين، وفتح الأسواق الأميركية أمام المنتجات الصينية عالية الجودة ورخيصة الثمن. ومن فائض القول الحديث هنا عن رغبة الصين في أن تغضّ الولايات المتحدة نظرها عن حضور الصين المتزايد في مشاريع البنى التحتية الحيوية في مختلف القارّات، كذلك في مجال تطوير التكنولوجيا ونقلها المتسارع لصالح الصناعات الصينية.
كلفة الصراع الأميركي الصيني، بنسختيه الاقتصادية والسياسية، ستكون باهظة على العالم. ومن حقنا جميعاً أن نأمل بعدم اندلاعه، خصوصا في هذه المرحلة التي يتطلع فيها العالم للخروج من تبعات فيروس كوفيد 19، الصحية والاقتصادية والإنسانية. وربما يكون من المرجح أن الطرفين الحاكمين في البلدين يمتلكان من الحكمة ما يضمن عدم تجاوز الصراع حدوده التقليدية، كأن تستمر مساعي الولايات المتحدة في إشغال الصين بدول محيطها الجغرافي، خصوصاً في بحر الصين الجنوبي وتايوان، وأن تواصل تشويه سمعتها في مجال حقوق الإنسان والحريات الفردية والديمقراطية السياسية، قياساً إلى نموذج "نهاية التاريخ" الذي تبشّر به الولايات المتحدة في خطابها (دع عنك تصرّفاتها الدولية التي لا تشبه ذلك النموذج المشتهى!)، بينما تواصل الصين، في المقابل، إغراء الدول بالرفاهية الاقتصادية التي ستتحقق من خلال مشاريع الاستثمار المشترك معها، ومن ثم قبول الصين لاعباً أساسياً في السياسة الدولية، والتعامل الإيجابي معها على الضد من الدعاية الأميركية. بهذه الطريقة فقط ستتواصل هذه اللعبة على المدى المنظور، ولن ينزلق العالم إلى ما لا تُحمد عقباه.