إسرائيل... حرب البقاء والفناء
صحيحٌ أنه رجلٌ لا يُصدّق، لكن ربما كانت المرّة الأولى التي أصدّق فيها بنيامين نتنياهو عندما يقول إن حرب إسرائيل في غزّة هي "حربُ وجود"، وإنها "حربُ التأسيس الثانية"، على اعتبار أن الأولى كانت عام 1948، ولا أظنّه مبالغًا في هذا الوصف، أو ساعيًا إلى إسباغ مشروعية داخلية على هذه الحرب، ورصّ الصفّ الصهيوني خلف الجيش.
ومن يمعن النظر في طريقة تعاطي إسرائيل مع هذه الحرب، ميدانيًّا، يمكنه استنباط دقّة هذا الوصف. فللمرّة الأولى، مثلًا، لا تستوقفها خسائرها البشرية من الجنود الذين يتساقطون بالعشرات يوميًّا، على خلاف ما كان يحدُث سابقًا، حتّى في غزّة نفسها، إذ كانت سرعان ما توقف إطلاق النار وتنسحب لدى سقوط أول جنديّ في الحرب البرّية، ما يعني أنها على استعداد لتحمّل التكلفة البشرية إلى أبعد مدى. وينطبق الأمر نفسه على أسراها لدى المقاومة، إذ كان واضحًا، منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، أنها اعتبرت كل من يقع من مستوطنيها وعسكرها في يد المقاومة، "قتلى حرب"، وبرهنت على ذلك، عمليًّا، بقتل طائفةٍ منهم على يدها هي، عن عمد وسابق إصرار، لقاء التخلّص من الآسرين، وللتخفّف من تبعات الأسر التي ستجرّ عليها ويلات التفاوض التي اختبرت نتائجها سابقًا.
وتتّضح "حرب الوجود" كذلك في طريقة أداء الجنود الصهاينة مع أسراهم في الميدان، سيما بعد "فضيحة" الإجهاز على ثلاثة منهم بـ"نيران صديقة"، وفق ما زعم قادة الجيش، غير أن الحقيقة الماثلة تقول إنها كانت "نيران عدوّة"، حيث لا مجال للتمحيص والفرز، و"لا وقت للوقت"، ولا مناصَ من قتل كلّ من يدبّ على جبهة الخصم، حتى لو كان "صديقًا" أو شقيقًا، حيث لا قواعد اشتباك، ولا قوانين حرب، بل المطلوب فقط بقاء إسرائيل على قيد الوجود، وهذه تعبّر عن "فلسفة الوجود" في الفكر الصهيوني الذي يرى أن وجوده لا يتحقّق إلا بإلغاء "الآخر"، ومحوه، على غرار ما فعله مع الفلسطينيين طوال عقود الاحتلال.
غير أن ما لم يدركه نتنياهو وغيره من قادة الاحتلال، وهم يقودون حربهم "الوجودية" المحمومة هذه، أنهم جرّدوا عنصر "القيمة" من الفرد الإسرائيلي نفسه، وهو ما سيقود، تاليًا، إلى فقدان هذا الفرد إحساسه بـ"وجوده" أيضًا؛ لأن "القيمة" و"الوجود" متلازمان في شخصيّته التي نشأ عليها، فقد كان يشعُر طوال حياته بأنه ليس محض كائن حيّ فقط، بل هو شخصٌ "متفوّق"، و"متفرّد"، وحياته ثمينة للغاية، خصوصًا في نظر "الدولة" التي يعيش في كنفها. فهي الدولة ذاتها التي أشعرته بذلك منذ طفولته، سيما لدى الأجيال الجديدة التي لم تعش تجربة الهجرة مثل أسلافها، بل وجدت نفسها في بيئةٍ حاضنةٍ حميمة، متفوّقة ومتقدّمة عالميًّا، وسط محيط "حيوانيّ".
كانت هذه البيئة تمنح الفرد الإسرائيلي الإحساس بالتفوّق، والاستعلاء، والتميّز. وكان ذلك يتَضح في طريقة التعامل مع أسرى الصهاينة عند "الأغيار"، بل ومع جثامينهم أيضًا، إذ كان المحتلّ يبادل الأسير الصهيوني الواحد بآلاف من نظائره العرب في سجونه، ويبذل جهودًا ووساطاتٍ عالمية لاستعادة الأشلاء، كما فعل مع رفات طيار إسرائيلي قتل في حرب 1973 على الأراضي السورية. كان مثل هذا الاستعراض الزائف مقصودًا، لإشعار الفرد الإسرائيلي بتفوّقه و"قيمته" العليا من جهة، ولإشعار الفرد العربي بضآلته في معادلة التبادل من جهة مقابلة. غير أن الصدمة التي يعيشها الفرد الصهيوني "المتفوّق" في حرب غزّة اليوم جاءت لتوقظه على حقيقة مغايرة تمامًا، قوامها أن حياته كلها لا "قيمة" لها في معايير الدولة التي حاولت إقناعه بعكس هذا سابقًا، ولا مكان لـ"التفوّق"، و"الاستعلاء"، و"الدلال"، بل يمكن أن يقتل عمدًا على يد دولته، وأن يسجّل في خانة "الخسائر الجانبية" إذا اقتضت "حرب الوجود" ذلك.
في المحصّلة، انقلبت "حرب الوجود" التي خاضها قادة الاحتلال على "الوجود" الصهيوني نفسه، وهذا ما أتوقع أن يؤدّي لاحقًا إلى زوال هذا الوجود عن أرض فلسطين إلى الأبد.