غزّة بلا وائل الدحدوح
لا تنزعوا وائل الدحدوح من غزّة، أو ربما الأصح: لا تنزعوا غزّة من وائل الدحدوح، فكلاهما يتمّم الآخر، وكلاهما وجهٌ لأسطورة واحدة، حتى أصبح من الصعب أن يشاهد المرءُ أحدَهما من دون الآخر على الشاشات.
أعرف أن ما دفع الدحدوح لمغادرة غزّة أمرٌ جلل يتعلّق بعلاج يده التي لم يعُد يستطيع التلويح بها في كل تقرير صحفيّ يبثّه، فقد كانت بمثابة تقرير مرادف يفسّر ما بين سطوره التي لا يرد فيها الغضب واضحًا؛ لأنه كان مضطرّاً أن يحافظ على "حياده" الصحفيّ، في زمنٍ لا حياد فيه، لكنها ضروراتُ العمل التي تقتضي ألّا تذرف دمعة واحدة في حضرة الكاميرا، حتّى وإن كنتَ محاطاً بشلالات دموع الصخور الباكية على ما يحدث.
والحيرة كل الحيرة، بعد هذا الخروج الحزين من غزّة، هي كيف يمكن لمتابع مثلي أن يستمع إلى تقرير جديد من غزّة لا يظهر فيه وجه وائل الدحدوح؟ هذا الوجه الذي غدا متلازمة في كل تقرير عن غزة؟
ولأكون أزيد صراحة، فأقول إن من كان يتابع تقارير وائل الدحدوح لم يكن يبحث فيها عن فصول الحرب، والتطورات العسكرية، والميدانية، أو عن الكوارث اليومية وأعداد الضحايا والمهجّرين، بل كان يحاول أن يطمئن على صمود غزّة، ذلك الذي كان يظهر جليّاً في سمات الدحدوح. كان يبحث في ملامحه عن حال المقاومة التي لا تستطيع الظهور إلى العلن، لكنّ وجهَه كان يُنبئ أنها بخير؛ لأنه هو ما زال بخير، وقادراً على الوقوف في وجه الكاميرا، بكلّ هذا العنفوان، وهدوء "القائد" الذي يعلم أن النصر صبر ساعة أخرى، فإن مرّت الساعة، أعاد ضبط ساعته بانتظار ساعة أخرى، من دون أن يفقد يقينه بحتمية الانتصار.
بادَلت غزّة وائل الدحدوح حبّاً بحب؛ لأنها تعرف قدر الرجال من أمثاله، الذين قرنوا الكبرياء بالفعل، فما هزّه ثكلٌ ولا فقدان، هو الذي دفن أحبّ أهله بيديه، وأمَّ المشيّعين في الصلاة عليهم، ثمّ عاد ليشمخ أمام الكاميرا، معلناً أن لا وقت للرثاء والبكاء والتحسّر، فغزّة لم تعطه إجازة لمثل هذه المشاعر التي ربما تقود إلى الوهن، والانسحاب من ميدان المعركة المستعرة فيها. كانت تريد أن يتماهى كبرياؤه مع كبريائها، وعزّتُه مع عزّتها، هي التي فقدت، أيضاً، الآلاف من أبنائها، شيباً وشبّاناً، نساء وأطفالاً، لكنها ما تخلّت أبداً عن كبريائها وشموخها، ولا أطالت الوقوف في المقابر، ولا طلبت إجازة من هذه الكبرياء لضرورات اللطم والندب، بل ظلّت تلد من "أنفاق" رحمها مقاومين جددًا، يستأنفون المسيرة، ويعيدون حمل راية دحر العدوان.
وأما وائل الدحدوح، الذي لم يكن يبحث عن "استراحة محارب"، وهو يُغادر غزّة باكياً لأول مرّة في حياته، فيعرف جيّداً أنّ غزّة التي تسكنه لن تتمدّد معه هذه المرّة على سرير الشفاء؛ فلا وقت لديها للمحاليل والمختبرات، وحقن الدواء... وسيظلّ التنازع بين كبريائه ويده الجريحة قائماً، حول صواب قراره بمغادرة غزّة قبل اكتمال قوس النصر، وأراه يتعجّل الأطبّاء والممرّضين لإنهاء عملهم؛ لأنه تأخّر كثيراً عن حبيبته غزّة، التي لديها فائض كبرياء يمنعها من التوقّف عند ابن يستشهد أو يغادر، وإن كانت تذرف دمعًا داخلياً يملأ العالم، لكنها مقتضيات الحرب المصيريّة التي اختارتها بنفسها؛ لأن هناك من حاول خدش هذا الكبرياء، بحصاره الطويل، والتطاول على ترابها.
أما نحن فليس لنا غير أن نحصل على "استراحة مشاهد"، بانتظار أن يعود المحارب وائل الدحدوح إلى ميدان المعركة.