اليمنيّون واللعب بالماء
إذا كنتُ مديناً باعتذارٍ لأحد، فللحوثيين وحسب، عندما كتبتُ قبل أعوام مقالًا في "العربي الجديد" بعنوان "الحوثيون واللعب بالماء"؛ إذ كان يتعيّن أن أستبدل كلمة "الحوثيين" بـ"اليمنيين"، فقد كنت أردّد، من دون تمحيص، ما أراد أن يزرعه أعداؤهم في ذهني، بأن هؤلاء ليسوا أزيد من فئة ضئيلة تستأثر بالسلطة في صنعاء، ولا يمثّلون الشعب اليمني، في سعي إلى نزع مشروعية حكمهم، متغافلين عن أن الحوثيين عاشوا مظلوميّةً كبيرة في اليمن، بسبب تهميشهم الدائم من الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد.
عموماً، كان لا بد من تلك المقدّمة الممهّدة، آملًا أن يُقبل اعتذاري؛ على الرغم من أن المقال إيّاه جاء من باب المديح للحوثيّين الذين لوّحوا بإغلاق باب المندب، لأسبابٍ لا مجال لذكرها، لكنني حاولتُ التذكير آنذاك بأن العرب يمتلكون ثروة هائلة من المضائق البحرية، التي يستطيعون توظيفها لردّ اعتبارهم أمام العالم الذي لا يقيم لهم وزنًا. وقلتُ إن في وسعهم أن "يلعبوا بالماء" للفت الانتباه إليهم، والخضوع لشروطهم، غير أنهم آثروا أن يكونوا مثل "المليونير الفقير"، الذي يمتلك ثروةً لا يعرفها، أو لا يعرف كيفيّة الاستفادة منها.
قلت، أيضاً، إن العرب لم يوظفوا هذه الثروة إلا في حرب أكتوبر (1973)، وكان لهذا التوظيف أثره في الضغط على حلفاء إسرائيل، لكن سرعان ما تبدّدت هذه الثروة من بين أيديهم، عندما تفرّق شملهم على أبواب كامب ديفيد، واتفاقيات العار المماثلة.
كان ذلك المقال قبل أن أعرف أن الحوثيين هم اليمنيون كلّهم في هذه اللحظة الغزيّة الفارقة، التي فصلت بين الشقيق والعدوّ؛ بين من يقف مع غزّة ومن يقف ضدّها. ولا ريب أن "اليمنيين" يبلون بلاء حميداً في هذه الحرب، بعد أن جعلوا من ميناء أمّ الرشراش قاعًا صفصفاً، خالياً من السفن، وأبهظوا تكاليف النقل البحري إلى إسرائيل أضعاف ما كانت عليه. والأهم أن هذه الوقفة المشرّفة وحّدت سائر اليمنيين خلف صنعاء التي قالت كلمتها صريحة واضحة، إن لا عبور لأي سفينة إسرائيلية أو تحمل بضائع لإسرائيل من باب المندب حتى يتوقف العدوان الصهيوني على غزّة.
والحال أن مصطلح "الحوثيّون" يفتح الباب على مصراعيه لمصطلحاتٍ أخرى ما زلنا نردّدها بلا وعي، على غرار أن الحرب القائمة الآن هي حرب "حماس" على إسرائيل، متناسين أنها حرب العرب برمّتهم، حتى ولو كانت "حماس" ورفيقاتها من فصائل المقاومة رأس حربة هذه الحرب، وآية ذلك أنها وحّدت سائر الشعوب العربية، بل والإسلاميّة، خلفها، فالكلّ يدعو إليها، ويتابع مجرياتها، وينتظر أن تسفر عن نصر مبين تحتفل به هذه الشعوب، إلى جانب شعوب أخرى من بلاد العالم الثالث، المبتلاة بهيمنة قوى الاستكبار العالمي.
وعلى الغرار نفسه، على اللبنانيين جميعاً أن يدركوا أن حرب حزب الله ضد إسرائيل هي حربهم أيضاً، ولا ينبغي اختزالها بفصيل واحد؛ لأن بعض أرضهم لا يزال محتلّاً، ولأن نوايا الكيان المجاور لهم لا تزال تنظر إلى الاستيلاء على نهر الليطاني، ولن يقف في طريقه أي حائل في متابعة عدوانه على لبنان إذا انتصر في غزّة.
وعلى الأرض العراقية، ما تفعله المقاومة هناك ضدّ القواعد الأميركية هو حرب العراقيين كلّهم ضدّ محتلّ دمّر بلادهم وفتّتها طوائف وشيعًا، وما زال يرفض الرحيل عنها.
ما فعلته غزّة أنها أعادت القوميّات إلى موضعها الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه، إلى فكرة الشعب الواحد الموحّد، مجهضة بذلك عقوداً من محاولات إسرائيل والغرب للتفتيت والتجزيء، وربما كان ما يحدث هو الردّ الأبلغ على سايكس وبيكو. ومقابل ذلك، ميّزت غزّة بين الحاكم العربيّ والمحكوم، خصوصًا الحكّام الذين خذلوها واصطفّوا مع العدوّ، سرًّا أو علانية، فقزّمتهم وأعادتهم إلى أوكارهم الطبيعية، فئة شحيحة لا تمثّل غير نفسها، وقلّة لا ينبغي بعد الآن أن تظلّ على سدّة الحكم.