إسرائيل في ذكرى تأسيسها
حلّت أمس الذكرى الـ 76 للنكبة الفلسطينية وقيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية، بعد أن نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق مشروعها الاستيطاني، مُستفيدةً من دعم القوى الاستعمارية الكُبرى، ومن حالةِ التخلّف الاجتماعي والسياسي العام، الذي كانت فيها معظم الأقطار العربية.
راهنت النخب السياسية والعسكرية، التي تعاقبت على حكم إسرائيل، على عامل الوقت لحسم الصراع، ودفع الفلسطينيين إلى التخلّي عن أحلام التحرير والعودة، وبناء الدولة المُستقلّة، وهو ما لخّصه ديفيد بن غوريون بقولته المعلومة: ''إنّ الكبار سيموتون والصغار سينسون''. لكنّ الذي حدث، أنّ جيل النكبة، رغم مرارة الهزيمة وفقدان الوطن والأرض، ورّث الأجيال اللاحقة مسؤولية الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، وإبقاء جذوتها حيّةً. كانت تلك معركة خاضها الفلسطينيون بجدارة، موازاةً مع المعارك العسكرية والسياسية التي خاضتها الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف مكوّناتها. وبذلك حَرَمَ الفلسطينيون العدوَّ الصهيوني من نشوة الانتصار، الذي يحسم الصراع إلى غير رجعة. وجاءت ''طوفان الأقصى'' لتكرّس ذلك، فقد أعاد الزلزالُ، الذي أحدثه داخل المجتمع الإسرائيلي، الأسئلةَ التي رافقت تأسيس دولة الاحتلال، أو بالأحرى أسئلة النكبة، إلى الواجهة، يتقدّمها سؤال المستقبل، الذي ينتظر إسرائيل أمام صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على مجابهة النسيان بالذاكرة، التي تنتقل من جيل إلى جيل، في ملحمة تراجيدية قلَّ نظيرُها في التاريخ.
توحُّش آلة القتل الإسرائيلية وانحياز الغربِ السافر لدولة الاحتلال، وتواطؤ النظام الرسمي العربي، والارتجاج الحاصل في المجتمع والهُويّة الإسرائيليين، ذلك كلّه، يرسم صورة مغايرة للصراع، لكنّها الصورة ذاتها التي رافقت نجاح الصهاينة في بناء دولتهم العنصرية (1948)، كلّ ما هناك، أنّ الشروط الثقافية والسياسية الموضوعية، التي كانت سائدة آنذاك، لم تكن تسمح بتبلور سردية فلسطينية مُضادّة، قادرة على الوصول إلى الرأي العام العالمي، في ظلّ توظيف الدعاية الصهيونية المحرقةَ اليهوديةَ في سرديةٍ متكاملةٍ للالتفاف على الحقّ الفلسطيني المسلوب. يعكس إصرار اليمين المُتطرّف الإسرائيلي على خيار الإبادة، بما يعنيه ذلك من تهجير قسري لسكان غزّة، وتدمير البنية التحتية، وتضييق الخناق على الفلسطينيين في الضفّة الغربية، وترهيبهم، حالةَ الرعب التي تجتاح الدولة والمجتمع الإسرائيلييْن من أن تكون إسرائيل قد بدأت تفقد قوّة الردع التي شكّلت أحد عناوين تفوقها العسكري والاستراتيجي في الإقليم. حالة الرعب هاته، يُعزّزها التحوّل العميق في بوصلة الرأي العام الغربي، بعد نجاح السردية الفلسطينية في فكّ العزلة عنها داخل المجتمعات الغربية، التي بدأت تدرك حجم الخديعة الكبرى، التي تعرّضت لها على يد الدعاية الصهيونية عقوداً. يُضاف إلى ذلك، خطر فقدان الدعم الغربي، وتحديداً الأميركي، زخمَه، ولو مرحلياً، بسبب النزعة البراغماتية التي تحكم السلوك السياسي الغربي في مجمله، فارتفاع الكلفة السياسية والاستراتيجية والأمنية لهذا الدعم قد يربك حسابات جماعات اللوبي الصهيوني المُؤثّرة في مواقع صناعة القرار، في العواصم الغربية الكبرى.
اليوم، ولأول مرة في تاريخ الكيان، يبدو الاحتفال بـ ''الاستقلال'' وتأسيس الدولة بلا طعم، فقد وصل بنيامين نتنياهو، ومعه اليمين الصهيوني المُتطرّف، إلى الباب المسدود. فبعد انصرام أكثر من سبعة أشهر من حرب الإبادة في غزّة، لا أفقَ يلوح أمام إسرائيل نتيجة حالة الانسداد الميداني، وقدرة المقاومة الفلسطينية على المناورة، واستنزاف جيش الاحتلال وإرباك مُخطّطاته، وغياب رؤية إسرائيلية واضحة بشأن اليوم التالي للحرب. ولعلّ ذلك ما يجعل ذكرى تأسيسها، هذه السنة، كابوساً مرعباً يضع قادتَها ونخبَها ومجتمعَها أمام مأزقٍ وجوديٍ غيرَ مسبوق. ولعل وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لم يجانب الصوابَ عندما قال، الاثنين الماضي، ''إنّ نتيجة حرب غزّة ستحدّد حياة الإسرائيليين في العقود المقبلة''.
نجحت المقاومة في إعادة تركيب المأساة الفلسطينية في وعي فئات اجتماعية واسعة في الغرب، وذلك بعد أن وقفت هذه الفئات على زيف ما تروّجه دولها وحكوماتها، كذباً وبهتاناً، بشأن الديمقراطية وحرّية التعبير والتظاهر، ورأتْ حجم الدعم السياسي والعسكري الغربي لدولةٍ عنصريةٍ تقود حربَ إبادةٍ مُمنهَجَة ضدّ شعب أعزل.