إلسا الجميلة السوداء
لـ"إلسا" سبب وحيد للعيش؛ صاحبها وسيّدها المدعو "ن". فإن قامَ قامت، وإن نامَ نامت، وإن مشى تبعته، حتّى إنّها ابتدعت لغةً خاصةً هي مزيج من نظرات وحركات وأفعال تخاطبه بواسطتها، مُؤكّدةً أنّها تفهم وتتابع وتهتمّ، وتودُّ لو أنّ لها لساناً يحكي له مدى تعلّقها به. و"إلسا"، السوداء، التي لها من العمر ثلاث سنوات تقريباً، هي ابنة لكلبة "غولدن ريتريفر" شقراء، وضعت جراءً بلونها، باستثناء "إلسا" التي جاءت سوداء كلّية. تبنّاها أحد الشبّان في القرية البعيدة، ثم فتحها الربّ في وجهه، فسافر كما يسافر كلّ أبناء هذي البلاد، مخلّفاً إياها تركةً لأمّه وأبيه، على أن يرسل لاحقاً في طلبها، فيحملها إليه أحد المسافرين اللاحقين.
غير أنّ كندا البعيدة، ومشاغل الحياة الضاغطة، وصعوبة الحصول على أوراق إقامة، ثمّ على عمل، وقسوة الطقس والوقت هناك، أنْسَتْه وعدَه، في حين تعلّق أبوه بسهولةٍ بالمخلوقة التي قرّرت أنّه سيّدها المطلق. فلم يكن لـ"إلسا" أيٌّ من تلك الخصال التي تُنفّر من الكلاب عادةً، فلم يكن يُسمع لها عواءٌ إلا نادراً، ولم تكن وقحة، أو سارقة طعام، أو مسبّبةً فوضى أو أذى، حتّى إنّه عندما يخرُج بها إلى الشارع، مرّتَين في اليوم، يخاف عليها من كثرة كلابٍ داشرة في الطرقات، وقد تخلّى عنها أصحابُها بعد الانهيار الاقتصادي الرهيب، أو يدرّبها مالكوها على الهجوم والدفاع وأنواع القتال، حمايةً لهم من أيّ اعتداء محتمل. على عكس "إلسا"، "الجبانة"، التي تُحبّ فقط اللعب مع أترابها، لكنّها تختفي بين ساقي صاحبها حين يتعلّق الأمر بخوض جولات قتال.
ويخطئ من يظنّ أنّ "إلسا" كلبة صغيرة الحجم، بل هي جسيمة، ووبرها الأسود اللامع يضيف إلى حضورها هيبة ووقاراً، إلا أنّ عينيها، ولسببٍ غير مفهوم، تفيضان بحنان العالم كلّه، يضاف إليه شجن مقيم. وهي إذ تنظر إليك بعينَين ثابتتَين، ونظرات مُنكسرة، تودَّ أن تركض نحوها لتعانقها وتربت على ظهرها وتقبّل رأسها، فيما هي تنتفض وترقص فرحةً بين يديك. حتّى البيطري، الذي يأتي مرّة في الشهر ليعتني بها، فيقلّم أظافرها ويعطيها اللقاحات، يستفيض في المديح والكلام عن مسالمتها وهدوئها وحسن سلوكها، حتّى حين يؤلمها بوخز إبره أو يرغمها على أخذ علاج.
وقد يظنّ القارئ أنّ المدعو "ن" من تلك الطبقة أو الفئة الاجتماعية، التي لا يشكّل ضمُّ كلب إليها، فارقاً لديه، خاصّةً أنّه شبه متقاعد، وأوضاعه على قدّ الحال، لكنّ "إلسا" صارت بمجهودها الخاص فرداً من أفراد البيت، تُنهضه عن الكنبة غصباً عنه، تجلب رسنها إليه لكي يُخرجها لقضاء حاجتها، أو ربّما، لكي تخرجه من عزلته، فتُجبره على الخروج من البيت والسير قليلاً ولو لوقت قصير. وقد ينسى المدعو "ن" تناول طعامه، لكنه لا ينسى "إلسا"، فيشتري لها أكياس الطعام، ويقلق إن رفضت الأكل، فيخلط طعامها بالبيض، أو ببقايا طعام زفر، أو يجمع لها من حوله عظام الدجاج وبقايا اللحوم الصناعية، وقد باتت تباع بالكيلو وبالدولار.
اليوم، لدى المدعو "ن" معضلةٌ عصيّة، وقد دعاه الابن للسفر إلى كندا ليستقبل مولود العائلة الجديد. وإذ تمّ قبوله ووصلت تأشيرة سفره، بدل أن يفرح، سيطر القلق عليه: ماذا يفعل بـ"إلسا" وأين يتركها؟ فـ"إلسا" ستفتقده حتّى الموت.. يعرف، وهي ستتوقّف عن الحركة وتناول الطعام، ثمّ أنّ البيطري الذي عرض، مشكوراً، استضافتها شهرين، يغيب مضطراً بسبب عمله طوال النهار، و"إلسا" إن غاب سيّدها لأكثر من ساعتيَن، حرنت وتوقّفت عن الأكل والشرب. ومما زاد الطين بِلَّةً، خبر بائس نشرته المواقع الإخبارية، وهو ليس الأول من نوعه في لبنان، عن مقتلة تعرّضت لها الكلاب الشاردة، كما يطلقون عليها، أي تلك التي تخلّى عنها أصحابها لأسباب مادّية أو بدافع السفر، وقد عثر في إحدى البلدات، أخيراً، على 27 كلباً مقتولاً بمادّة اللانيت المحظورة عالمياً، وسمّ الجرذان.
"يقتل السمّ على مراحل، بحيث تبدأ الأعضاء بالتحنّط وتتوقّف تباعاً وصولاً إلى حصول نزيف حادّ، ما يؤدّي حُكماً إلى الموت". هل من بينكم من يحنو فيستقبل إلسا لشهرين؟