إيران وإسرائيل... لعبة التوازنات
مضى نحو أسبوعين منذ شنّت إيران هجوماً غير مسبوق على الكيان الإسرائيلي بطائرات مُسيّرة وصواريخ مُجنّحة وغير مُجنّحة، وما زالت عاصفة الجدل مشتعلة بين العرب الذين يقفون متفرّجين، بين من يتحدّث عن مسرحية تافهة الإخراج، ومطبّل لهذا الفعل يجعل منه أسطورة، فيما غابت القراءات الواعية التي يمكن أن تقدّم ما يفيد بشأن ما حدث، الذي كان استثنائياً في كلّ حال، وسواء كان عملاً مُمَسْرحاً أو حقيقياً، فإنّ المنطقة أمام سيناريوهات جديدة، وربّما مُربِكة وكبيرة، تتطلّب قراءة جادّة لما جرى من أجل البناء عليه، هذا إذا افترضنا أنّ لدى العرب، أنظمةً، القدرة على البناء لما هو مُقبل، في ظل هذه الأجواء الإقليمية المشحونة.
بدايةً، لا بد من التأكيد على أنّ الهجوم الإيراني على دولة الاحتلال لم يكن بسبب الحرب المتواصلة على غزّة منذ سبعة أشهر، وإنّما كان ردّاً على استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، ما أدّى إلى مقتل قادة عسكريين إيرانيين كبار، بينهم نائب قائد عمليات فيلق القدس محمد زاهدي، وهو أمر مُهمّ في قراءة ما جرى. الأمر الآخر، الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان أنّ الردّ الإيراني على استهداف القنصلية مُباح في إطار القانون الدولي، بما أنّ الطرف الآخر استهدف أرضاً إيرانية، كما أنّ الردّ الإيراني جاء بعد نحو أربع سنوات من استهداف إسرائيلي متكرّر لأهداف إيرانية، منها ما هو داخل سورية، ومنها ما هو داخل إيران نفسها، تمثّل الأخير باغتيال علماء نويين إيرانيين، وضرب منشآت إيرانية عسكرية. صحيح أنّ دولة الاحتلال لم تعترف بكل تلك العمليات، لكنّ إيران كانت تُسارع دوماً لاتهامها. ومع ذلك، لم يسبق لإيران أن ردّت على تلك الهجمات، وكانت ترفع شعار "الصبر الاستراتيجي". لماذا ردّت إيران على هذا الهجوم إذاً؟ وهل جاء الردّ في توقيت مناسب، خاصةً أنّ إسرائيل وجيشها غارق في أوحال غزّة منذ سبعة أشهر، من دون أن ينجح في تحقيق أي من الأهداف التي ساقها نتنياهو لهذه الحرب؟
تدرك إيران المشروع أنّ القضية الفلسطينية مشروع أيضاً، يحقّ لها، كما لغيرها، المتاجرة فيه
أخذت إيران على عاتقها، ومنذ ثورة الخميني (1979)، قضية فلسطين جزءاً رئيساً في مشروعها لتصدير الثورة، فمرّت هذه الثورة وشعارها الفخم في العراق حرباً استمرت ثماني سنوات، ثمّ مرّت فيه عقب غزوه أميركياً، لتمتد حتى وصلت إلى سورية وثورتها، بحجة الدفاع عن المقدّسات، والنظام طبعاً، وكانت قبل ذلك، وبعده، قد استوطنت لبنان، بحجة الدفاع عن فلسطين والمقاومة، فيما كان لها حضور غير مسبوق في اليمن، مستغلّة الثورة على النظام السابق بزعامة علي عبد الله صالح، فدعمت الحوثيين، وشكّلت منهم فصيلاً سياسياً وعسكرياً استحوذ على نصف اليمن. ولكن أين فلسطين من ذلك كله؟
تدرك إيران المشروع أنّ القضية الفلسطينية مشروع أيضاً، يحق لها، كما لغيرها، المتاجرة فيه. لذلك، رفع الشعارات شيء والعمل شيء آخر. من هنا، لم يكن ردّ طهران على إسرائيل بسبب الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها غزّة، ولا بسبب وحدة الساحات، التي كثيراً ما تحدّث عنها محور المقاومة مع انطلاق "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وإنّما كان ردّها جزءاً من سياسة ردع لإسرائيل، التي ترى إيران أنّها تمادت كثيراً في سياستها، وبالتالي كان لا بد من عملية، حتى لو بالطريقة التي وصفها بعضهم بالمسرحية، من أجل استعادة دور إيران على رأس محور المقاومة، وأيضاً، كانت في ردّها رسالة إلى المحافظين في الداخل أنّ الاستثمار العسكري الإيراني، الذي أنفق عليه النظام مليارات الدولارات، قادر على أن يوفّر سياسة ردع مناسبة، سواء ضدّ إسرائيل أو ضدّ غيرها. هل نفهم من ذلك أنّ ثمّة خلافاً بين مشروع إسرائيل ومشروع إيران استدعى هذا الردّ الإيراني؟ ... ليس تماماً، الخلاف إن وجد بين تل أبيب وطهران لا يرقى إلى خلافٍ يجرّ البلدين إلى حرب مفتوحة، ولكلّ منهما حساباتُه في هذا الجانب.
ترى تل أبيب في وجود النظام الإيراني ضرورة
تعرف إيران مدى هشاشة نظامها من الداخل، وتعرف جيداً أنّ إسرائيل لديها من القوة العسكرية ما يمكن أن يفتت مشروع طهران النووي، ناهيك طبعاً عن الدعم الغربي الأميركي، الذي تجلّى بشكل كبير في التصدّي لآخر هجوم إيراني. في المقابل، ترى إسرائيل في وجود النظام الإيراني فرصة مهمّة لمزيدٍ من علاقات التطبيع مع العالم العربي، الذي تتفنّن طهران في كسب عداوته، خصوصاً من خلال أذرعها التي باتت مزعجة للإقليم العربي بشكل كبير. وبالتالي، ترى تل أبيب في وجود النظام الإيراني ضرورة. تماماً كما ترى طهران في وجود دولة الاحتلال المغتصبة الحقّ الفلسطيني ضرورة، لأنّها من دون هذا الغطاء؛ قضية فلسطين، لا يمكن لها أن تتمدّد وتتوسّع في الإقليم العربي. من هنا، يمكن فهم طبيعة الردّ الإيراني على إسرائيل؛ أقلّ من حرب وأكثر من مسرحية، أُبلغ خلاله الأطراف المعنيون بكل تفاصيله، حتى لا تتدحرج كرة النار وتلتهم، لا المشروع الإيراني فحسب، ولكن حتى المشروع الإسرائيلي نفسه.
حسابات إيران المُعقّدة، ومعها حسابات إسرائيل، ومن خلفها الداعم الغربي والأميركي، تُبهرك، وفي كلّ مرّة تُؤكّد لك أنّ دول المشاريع قد تختلف في بعض التفاصيل، لكنها بالمطلق لا تذهب إلى القتال الذي يفضي إلى نهاية مشروع على حساب آخر، خاصةً إذا رأى كلّ منها أنّ في وجود الآخر (الخصم) مصلحة على المستوى القريب، وربما البعيد، ليبقى السؤال المفتوح: هل يدرك العرب موقعهم بين هذين المشروعين؟