إيران والورقة الأوكرانية
تتزايد مخاوف الغرب بشأن الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدّمه إيران لروسيا في حربها على أوكرانيا. وتتصدّرُ المُسيَّرات الإيرانية هذه المخاوف، بسبب دورها في الحفاظ على التفوّق الجوي الروسي، وتعزيز الشراكة العسكرية بين البلدين، والارتقاء بها نحو تحالف استراتيجي وثيق.
تدرك النخبة الإيرانية أن هزيمة الروس تقلّص هامش الحركة أمامها، وتجرّدها من الغطاء الروسي الذي يشكّل بالنسبة لها نقطة توازنٍ في مواجهة الغرب، فضلا عن أهميته في بعض الملفّات الإقليمية، وفي مقدّمتها الملفّ السوري. كما تدرك هذه النخبة، في الوقت ذاته، أن انتصار الروس في الحرب ستكون له تداعيات على بنية النظام الدولي، بحيث سيجعلها أكثر قدرةً على المناورة والمساومة في غير ملفٍّ إقليمي. هذا فضلا عن أن الانتصار الروسي سيعزّز مواقع جناحها المحافظ، ويعطي مصداقيةً لخطابه بشأن سياسات الغرب، التي تستهدف الهيمنة على مقدّرات الشعوب وثرواتها، فالدعم الذي يقدّمه الغرب لأوكرانيا، وِفق هذا الخطاب، يبقى محكوما بمصالحه الاستراتيجية العابرة للحدود، والتي يقع توسيعُ حلف الناتو شرقا ضمن أولوياتها. وفي المقابل، يُدرك الروس أن لا أفق قريبا لنهاية الحرب، ما يعني أنها توشك أن تتحوّل إلى حرب استنزافٍ طويلةٍ ومكلفة. وهو ما يعزّز حاجتهم للدعم العسكري واللوجستي، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم به غير دولٍ ومحاورَ مناوئةٍ لسياسات الغرب، وفي مقدّمتها إيران التي ترزح، كما روسيا، تحت حزمة عقوباتٍ غربيةٍ قاسية.
بات تزويد إيران روسيا بالمسيَّرات، وغيرها من أنواع الأسلحة والعتاد، مثار قلق الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي و"الناتو". وكان لافتا ما تضمّنه البيان الختامي لقمّة مجموعة السبع، التي التأمت في هيروشيما في اليابان نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيار)، بشأن ''دعوة إيران إلى التوقّف عن دعم روسيا في حربها على أوكرانيا، وعدم تزويدها بالمسيّرات''. وفي الوسع القول إن إيران نجحت في تحويل دعمها لروسيا إلى مشكلةٍ تقضُّ مضجع الغرب الذي يتطلّع إلى إنهاك الروس وقطع مختلف أشكال الإمدادات عنهم. وفشلُ القوى الغربية الكبرى في استبعاد إيران من معادلة الحرب وحساباتها الجيوسياسية يزيد المشهد الأوكراني تعقيدا، على الصعيدين، العسكري والسياسي، إذ لا ترغب هذه القوى، إلى حدود اللحظة، في فتح مواجهة مباشرة مع إيران، لما لذلك من تداعياتٍ جيوسياسية إقليمية ودولية.
دعم طهران موسكو إشارة إيرانية لا تخلو من دلالة، مفادها بأن إيران ليست فقط فاعلا إقليميا مؤثرا في قضايا الإقليم وملفاته الملتهبة، بل يمكنها التأثير في ملفّاتٍ دوليةٍ بعيدة عن مجالها الحيوي. وتزايُد هذا الدعم وتنوُّع أشكاله قد يُساعدانها على إدخال الملفّ الأوكراني إلى دائرة المساومة في علاقتها بالغرب، بالتوازي مع الملفّات اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية التي تشكل محورَ نفوذها المذهبي والسياسي في الإقليم، وأوراقا في تشكيل تحالفاتها وتوجيهها.
هناك أيضا بُعد آخر لا يقلّ أهمية في تعاطي إيران مع الأزمة الأوكرانية، ذلك أن تزويدها روسيا بمختلف أنواع المسيّرات يؤكّد صعودها قوةً إقليميةً جديدةً في مجال التصنيع العسكري. وفي ذلك رسالة سياسية لا تخلو من دلالة لدول الإقليم.
بيد أن نجاح إيران في ذلك كله لا يمنع من القول إنها حريصة، أيضا، على إدارة دعمها روسيا بقدرٍ من التوازن، آخذةً بالاعتبار منعرجات ملفّها النووي الذي يتصدّر أولويات علاقة الغرب بها. ولا شك أنها تسعى إلى توظيف الورقة الأوكرانية بما يعزّز موقعها التفاوضي في هذا الملفّ، ويساعدها على الخروج باتفاقٍ نوويٍّ يخدم الحد الأدنى من تطلّعاتها النووية ومصالحها ونفوذها في المنطقة.
يصعب التكهّن بمآل الأزمة الأوكرانية، فذلك يبقى رهينا بتطوّر الوضع الميداني وقدرة كل طرفٍ على التكيّف مع المسارات التي قد تأخذها الحرب في الفترة المقبلة. لكن استمرار المواجهات وتعثر الحل السياسي يترك القوس مفتوحة أمام إيران للاستثمار في النزاع الأوكراني واستخلاص عائداته ورقةَ مساومةٍ جديدةً في علاقتها مع الغرب.