الأزهر وهذه المزايدات
أثارت سلسلة حلقات شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، التلفزيونية في شهر رمضان المنقضي، عن المرأة وأحكام الشريعة الإسلاميّة في قضايا الأسرة، جدلاً واسعاً في الفضاءيْن الافتراضي والإعلامي في مصر. فقد حملت خطاباً تصحيحياً لمفاهيم مجتمعية عديدة مغلوطة، في الأمور المتعلّقة بالزواج، والطلاق، والتعدّد، عبر التأكيد على أن اهتمام التشريع الإسلامي بالمرأة فرع ينبني على أصل، هو مكانة الأسرة في الإسلام، ومنزلتها المُقدَّسة في شريعته وأحكامه التي حمى بها صرح الأسرة، والأعمدة التي يقوم بها هذا الصرح، وفي مقدّمتها الزوج والزوجة وما يكون بينهما من أطفال، وما يتعلّق بهم من حقوق وواجبات تتمحور على مبادئ المودّة والرحمة من جانب، والعدل والمساواة والاحترام المُتبادَل من جانب آخر، وأن أمر الأسرة في الإسلام أنها ليست عقداً أو نظاماً مدنيّاً، أو طبيعيّاً، أو اجتماعيّاً، وإنّما هي عقدٌ دينيٌ مُقدَّس له حرمته وقدسيّته، وهو محاطٌ بتشريعاتٍ إلهيّة دقيقة، منها ما هو ثابتٌ وباقٍ، ومصاحب للأسرة مهما تغيّر بها الزمان والمكان، ومنها ما يتطوّر، لكن بشرط أن يبقى ضمن ثوابت الإسلام، وأُطُره الخُلُقيّة والإنسانيّة.
على الفور، اندفع التنويريّون إيّاهم، بمشاركة زاعقة لافتة للوبي النسوي، بهجومٍ كاسحٍ على حلقات شيخ الأزهر، وقد هبط خطابُ بعضهم إلى مستوى بالغ التدنّي، عندما وصف الحلقات بأنها "أفكار رجعيّة لرجل صعيدي شرقي لا تمتّ للدين بصلة"، في حين وصفتها إحدى النسويّات إيّاهنّ بأنها إعادة إنتاج لـ"الفقه الذكوري"، الذي أنتجه فقهاء من الرجال والذي يجنح إلى غبن المرأة (!). وغنيٌ عن البيان أن هذه الحملة مجرّد تنويعةٍ على معارك ورقيّة مشابهة، افتعلها هؤلاء خلال السنوات الماضية، تعدّدت مناسباتها لكنها تمركزت حول محاولات تقويض الهويّة الحضاريّة للمجتمع المصري، وتحجيم حضورها، وملاحقة مظاهرها، وضرب أصولها، من أجل تفكيك النظام الاجتماعي، وإعادة صياغة البنية الحضاريّة المجتمعيّة التي فشل العلمانيّون المُتطرّفون في تغييرها عبر أكثر من قرن.
وفيما يخصّ المرأة، يجد المتتبّع لمسلك التنويرييّن من هذا اللون في السنوات الأخيرة، بدعم واسع من اللوبي النسوي، أن هؤلاء ما فتئوا يغيرون بحملاتهم على الوحدة الأساسيّة في المجتمع (الأسرة) بضرب الأسس الشرعيّة والأخلاقيّة لإدارة العلاقات داخلها، عبر تفخيخ العلاقة الزوجيّة، تحت شعارات حماية حقوق المرأة والانتصار لكرامتها، وتحويلها من علاقة قائمة على المودّة والرحمة، عبر واجبات وحقوق على كلّ طرف، إلى علاقة قائمة على المناطحة والشكّ وسوء الظنّ المُتبادَل، مع محاولات حثيثةٍ جهيرةٍ لزعزعة البنية الشرعيّة التي تقوم عليها العلاقة الزوجيّة، وإخراجها من طبعها التراحمي الإنساني، إلى السياق التعاقدي وفق النسق الغربي، بعد تفريغها من أي بُعد شرعي.
تهدف المعارك الورقيّة التي افتعلها أولئك التنويريّون أخيرا إلى تأسيس فهم عصري جديد للإسلام، وتحمل نظرة استخفاف، وربّما استهزاء، بالتراث الفقهي "الموروث"، بمحاولة تصويره فهما قاصراً عاجزاً عن تلبية متطلّبات العصر، ومتناقضا مع روح الحداثة، يتعيّن التخلّص منه ضربة لازب، عبر تبنّي قطيعة معرفيّة كاملة معه، إذا ما أردنا أن نلحق بركب التحضّر (!).
تخلط تلك المعارك خلطاً مريعاً بين ما هو شرعي/ فقهي وما هو سياسي/ أيديولوجي، فهي لا تميّز بين الثوابت والمتغيّرات من جهة، حيث تنطلق قذائف التنويرييّن بصورة طائشة بالغة الرعونة، وتطاول ثوابت عَقديّة وفقهيّة، وتمتدّ إلى رموز تاريخيّة ودينيّة، فالتجديد عند أولئك التنويريّن يعني الهدم والتبديد.
لابدّ لأي اجتهاد أن يكون مستوفياً الضوابط العلميّة، حتّى يستحقّ وصف "الاجتهاد" وفقاً للأصول المُتعارَف عليها بين أهل الصنعة
من جهة أخرى، يهدف جزء من تلك الزوابع إلى تصفية حسابات أيديولوجيّة، عبر ضرب البنية التحتيّة، والمخزون الاستراتيجي لجماعات الإسلام الحركي، باعتبار أن تلك الجماعات دوماً تستثمر في فائض التديّن في المجتمع، وتسعى إلى الانتشار عبر استخدام الدين أداة للوعاء التجنيدي، فيكون الحلّ عند أولئك التنويرييّن بمحاولة رعناء لفصل الدين عن المجتمع، وسلخه عن هويّته، والسعي إلى الصدام مع قيم مرجعيّته الحضاريّة، ونفيها بالكليّة من المجال العام، وشطبها من العقل الجمعي للمجتمع، وبالطعن المُستَتِر والصريح في الثوابت الشرعيّة، والأحكام الفقهيّة المُنظّمة للبنية الاجتماعيّة.
الأسوأ والأكثر رعونة وحماقة محاولة نسف "الموروث" من أساسه، عبر طرحٍ يستبطن تصوير علماء (سواء كانوا من القدامى أو المحدثين) وجماهير المسلمين على السواء، طوال القرون الماضية، بأنّهم أمّة من البُلهاء الذين لم يفهموا مقاصد النصوص الشرعيّة بصورة سليمة، وهو محض فكرة عدميّة ميّتة، محكوم عليها بالفشل الذريع، وعلى أصحابها بالسقوط المدوّي.
كان الهمّ الأكبر للمتحدث عنهم في معاركهم الورقيّة، إثارة الصخب والشغب على الأزهر (يمطرونه بالنصيب الأوفر من قذائفهم مؤسَّسةً، ومشيخةً، ورموزاً، ومنهجاً، وتاريخاً)، عبر إظهاره بمظهر المؤسّسة الجامدة، الراكدة، الحريصة على التمسّك بكلّ قديم، الرافضة أي جديد، وقد أشهر أولئك فيها مصطلح "التجديد" والخروج عن التقليد، وتحطيم قيود التراث، والتحرّر من الموروث الفقهي، عبر إعمال معاول الهدم في الفروع، وحتّى في الأصول، ظنّاً منهم أن هذا هو الطريق الأمثل للتجديد، وفق مفهومهم المشوَّه عن المصطلح.
معارك ورقيّة تهدف إلى تأسيس فهم عصري جديد للإسلام، وتحمل نظرة استخفاف، وربّما استهزاء، بالتراث الفقهي "الموروث"
ثمّة إشكاليتان كبيرتان تعتوران هذا الطرح: الأولى: عدم تقديم مظلّة علميّة/ فقهيّة بديلة، ذات أساس فقهي أو أصولي متماسك، تضبط مقاصد أهل هذا "التنوير"، بعد تحطيم المنظومة الفقهيّة القديمة، وتدمير المظلّة الأصوليّة التي قدّمها عِلم أصول الفقه، ذلك العِلم القديم ذو الأصول الراسخة، عبر تراكم معرفي طويل امتدّ بضعة قرون، فلا مشكلة مع أي اجتهاد فقهي مهما كانت درجة شذوذه (التراث الإسلامي يعرف مصطلح "الحُكم الفقهي الشاذّ"، وما من فقيه إلا وشذّ في بعض اجتهاداته). ولكن لابدّ لهذا الاجتهاد أن يكون مستوفياً الضوابط العلميّة، حتّى يستحقّ وصف "الاجتهاد" وفقاً للأصول المُتعارَف عليها بين أهل الصنعة، وأرباب الفنّ، وأي طرح يتجاوز تلك الأصول يظلّ مجرّد ثرثرة غثّة لا تستحقّ الالتفات أو النظر.
الثانية: الخلط الكامل الذي يصل إلى درجة المزج بين القطعي والظنّي، والكلّي والفرعي، والمنطوق والمفهوم، أو باستدعاء آراء فقهيّة شاذّة وتسليط الضوء عليها باعتبارها الأصل والأساس، ما يؤدّي، في المُحصّلة النهائيّة، إلى إعادة إنتاج لعِلم "أصول فقه" جديد، يستمدّ مرجعيّته من دعوات العَصرَنة أو استدبار التراث، وصولاً إلى التغريب الكامل للمرجعيّة الفقهيّة.
أمّا المآل الكارثي لذلك الطرح فهو أنّه سيأتي بنقيض مقصده، فالتنويريّون من هذا اللون يهدفون إلى نشر قيم الاعتدال، ونبذ الكراهية، وقبول الآخر كما يزعمون دوماً.
لكن تلك الصيغة المتطرّفة التي يقوم عليها طرحهم تُعدّ أفضل وقود لنشر التطرّف، فالعلاقة وثيقة بين التغريب والتكفير، وهذا مُشتَهَر مُجَرَّب مُختَبَر في تاريخنا القريب، فكلّما ازدادت دعوات التغريب علت نزعات التطرّف والتكفير... لكنّها الحماقة التي أعيت من يداويها.