الألعاب الأولمبية .. مشاركة سورية مزدوجة
تصرّ شعارات الألعاب الأولمبية على أنها مواجهات سلمية، تهدف إلى التقريب بين الشعوب، عبر تجميع البارزين رياضيا من كل أمة، ليعرضوا مواهبهم ضمن تجمّع واحد، وعيون العالم كله ترمقهم. ولكن الحقيقة أن معظم الدول تستخدم هذا التجمّع لأغراض سياسية، وللتسويق لوجهة نظرٍ معينةٍ أو لبيان موقفٍ ما، واستخدمت الأمم هذا الأسلوب منذ ظهور الألعاب الأولمبية. وقد عرض هتلر لآرائه العرقية والأممية في أولمبياد برلين قبل الحرب العالمية الثانية. واستخدمها الحلفاء بعد انتصارهم في الحرب مباشرة بحرمان ألمانيا من المشاركة عقوبةً سياسية لها على "خسارة" الحرب، وشهد أولمبياد موسكو إبّان الحقبة السوفييتية انسحاباً جماعياً لدول المعسكر الغربي قادته أميركا. وفي الأولمبياد الذي يقام حاليا في طوكيو، أقيل مُخرج حفل الافتتاح بعد أن نشر شريطا قديما له، وهو يسخر من المحرقة اليهودية.. هذه أحداث سياسية لوّنت الرياضة بلونها الخاص، وتكاد لا تُذكر الألعاب الأولمبية إلا ويُذكر الحدث السياسي الكبير الذي يميزها، فقد عجزت الرياضة عن النأي بنفسها عن السياسة، بل نجحت السياسة في إخضاع الرياضة ذاتها لإرادتها.
تستقطب هذه الألعاب نظر العالم بمراسم الافتتاح الذي تسير فيه الدول المشاركة في طابور العرض الرسمي، وتدور في أرضية الملعب الرئيسي، رافعةً علم بلادها الوطني. التاريخ الأولمبي السوري كان شديد الفقر، على الرغم من المشاركات المبكرة للفرق الرياضية السورية في تجمع الألعاب الأولمبية الذي يقام كل أربع سنوات مرة واحدة، فقد شاركت سورية أول مرة في عام 1948 في الأولمبياد الصيفي الذي عقد في ويمبلي – لندن. وحين وصلنا إلى أولمبياد طوكيو أخيرا، أصر النظام السوري على أن يكون حاضرا، على الرغم من الظروف البائسة التي يعيشها السوريون في مناحي الحياة كافة، فالنظام الذي يريد دائما تسويق وجوده، يرى في هذا الحدث مناسبةً جديدةً يطل فيها، ليذكّر من يشاهد بأن هناك نظاما وفريقا رياضيا وعلما يصر على عرضه وتسويقه بوصفه العلم الرسمي "الوحيد"، بغض النظر عن النتائج الرياضية التي ستتحقق ومعادلة الفوز والخسارة، فهذه لم تكن يوما من ضمن نطاق اهتمام المسؤولين الرياضيين السوريين الذين يشبهون جميع السلطات التي يفرضها النظام على المجتمع المدني، لتتلون بلونه وسلوكه وسياساته الخاصة.
الاختراق حققته اللجنة الأولمبية عام 2015 بتبنّيها فريق اللاجئين، فقد طاف اللاجئون حول العالم حتى باتوا قادرين على تشكيل "دولةٍ" يتشارك مواطنوها فقدانهم وطنهم الأم وفقدانهم الأمن. وربما كان العدد الأكبر من مواطني هذه الدولة المفترضة حينها هم من السوريين. وفي الدورة الحالية أيضا، انتقت اللجنة الأولمبية عددا منهم لتمثيل أنفسهم تحت علم اللجنة الدولية الأولمبية، بحلقاته الخمس المعروفة التي تشير إلى قارّات العالم كله، وتضع في خانة الأحرف الثلاثة التي تمثل الدولة حروفا ثلاثة تمثل الفريق الدولي للاجئين، وتعزف النشيد الأولمبي في حال فاز أيٌّ من هؤلاء اللاجئين بميدالية ذهبية. الضربة التي تلقاها النظام أن عددا كبيرا من فريق اللاجئين هم من السوريين، بحيث فاق عددهم عدد الفريق الأولمبي الذي أرسله النظام ليمثله في طوكيو. أما اللحظة الإنسانية فهي "مصادفة" وجود أخوين شقيقين، أحدهما في فريق النظام والآخر في فريق اللاجئين الدولي، الأمر الذي يعكس شدّة الانقسام وعمقه، ولم تعبر الصورة التي تُظهر عناق الشقيقين إلا عن هذا الانقسام المروّع.
كل ما يمكن أن يكسبه النظام سياسيا من هذه الألعاب خسره قبل أن تبدأ حتى جولات اللعب، بوجود السوريين بهذه الكثرة في الفريق الذي يمثل اللاجئين، ما يعكس النزيف الذي لحق بالمجتمع السوري، بهجرة نخبة رياضية وجدت نفسها مطرودةً خارج الوطن، منتظرة "العطايا" الدولية لتشارك بما هو حقّ لها، وهذا جانب آخر من جوانب الانهيار الذي ألحقه النظام ببنية المجتمع السوري، بتوجيهه طوال السنوات الماضية اللطمات العنيفة لأبرز وجوهه المرشّحة لحمل اسمه، والتعبير عنه دوليا.