الإعلام مُحرِّض أم ضحيّة؟
هل يتحمّل الإعلام التقليدي مسؤولية تلميع صورة اليمين المُتطرّف وتطبيع خطابه؟... في الغرب، حيث يتقدّم اليمين المُتطرّف في مختلف أشكال الانتخابات ليدخل المؤسّسات السياسية من بابها العريض، تمكّن مروّجو الخطاب الإقصائي لهذا اليمين المُتطرّف من التسلّل إلى الإعلام التقليدي من بابه العريض أيضاً، بعدما كان الإعلام الحديث ملعبه الرئيس، طارحاً نفسه حاميَ الهُويّات "الصافية" من تدخّل "الغريب".
في فرنسا، حيث حلّ اليمين المُتطرّف أولاً في الجولة الأولى للانتخابات العامة، تسلّل خطابه عبر البرامج الحوارية من باب حرّية التعبير والنقاش العام. هل تشمل هذه الأخيرة حرّية التعبير عن الآراء والقوالب العنصرية أو الإقصائية للآخر؟ وهل من الممكن، في المقابل، طمس هذه الآراء رغم أنّها جزء من النقاش العام؟... في فرنسا، حُمِّلت القنوات الخاصّة واسعة الانتشار مسؤولية إخراج أصوات اليمين المُتطرّف من قوقعة مواقع التواصل الاجتماعي إلى "شرعية" الإعلام التقليدي واسع الانتشار، ليصبح الخطاب عادياً، أي أنّه جزء من النقاش في حلبة الأفكار، ممّا قاد إلى "تعميم" هذا الخطاب الشعبوي أو إدماجه في المجال العام بعدما كان محصوراً في فوضى مساحات التواصل الاجتماعي وهامشيّتها. يُغذِّي هذا التعميم ويَتغذَّى من الصورة النمطية عن الإعلام العمومي الفرنسي بأنّه مُنحاز لليسار وللنُخَب، وأنّ ثمّة قطيعة بينه وبين الشارع وهمومه.
يصعب الجزم أنّ إعطاء مساحات واسعة لتغطية خطاب اليمين المُتطرّف ومؤيّديه في الإعلام التقليدي يقود بالضرورة إلى تعزيز شعبيتهم باعتبار أنّ قاعدتهم الشعبية لن تتأثّر بالتغطية الإعلامية
في الولايات المتّحدة، التي تعيش هاجس عودة الشعبوي دونالد ترامب إلى الحكم، رغم إنجازات اقتصادية مُهمّة لفريق الرئيس الحالي الديمقراطي جو بايدن، حُمّل الإعلام الليبرالي مسؤولية هذا التعميم عبر إعطاء مساحات واسعة لمؤيدي ترامب لاستعراض عمق كراهية خطابهم والخطر الذي يشكلونه على مؤسّسات الدولة ونظامها الديمقراطي. يقول أحد هؤلاء، في تحقيق نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، إنّ تركيز الإعلام على اليمين المُتطرّف شكّل أحد أبرز إنجازات الحملة من دون التخطيط للأمر. "أعتقد، وهو أمر غريب، أنّ اليسار قد يُريدنا سرّاً أن ننجح"، يُعلّق الأخير.
يصعب الجزم أنّ إعطاء مساحات واسعة لتغطية خطاب اليمين المُتطرّف ومؤيّديه في الإعلام التقليدي يقود بالضرورة إلى تعزيز شعبيتهم باعتبار أنّ قاعدتهم الشعبية لن تتأثّر بالتغطية الإعلامية لهم، كما أنّ الناخبين المُتردّدين لن ينحازوا بالضرورة لهم من دون دوافع قوية، غالباً ما تكون شخصية. كما أنّ الصحافة معنية ومسؤولة عن تمثيل أصوات الجميع، بما في ذلك فهم دوافع هذا التصويت عند هذه الفئة بالذات. هل يعني ذلك منح هذه الأصوات منصّات للتعبير من دون دحض القوالب والأكاذيب التي تتخفّى وراءها، بشكل واع أو من دون وعي؟ وهل يعني ذلك أيضاً الاستهزاء بالناخبين وقلّة ثقافتهم لإبرازهم وكأنّهم حالة مَرضيّة خاصّة مُستقلّة عن المجتمع وقيمه؟... حَشَدَ بعض الإعلام الفرنسي التقليدي قواه للتحذير من خطر وصول اليمين المُتطرّف إلى الحكم خلال آخر حملة انتخابية عبر تصوير غباء المُرشّحين، وعنصرية المُؤيّدين، وقلّة ثقافتهم. في الفيديوهات، التي انتشرت من الإعلام التقليدي إلى الجديد، نرى تعبيرات كراهية الآخر، الغريب، المُغترِب والمسلم بشكل خاص، في أبشع أشكالها لدى مُؤيّدي التجمّع الوطني اليميني المُتطرف. يشبه هؤلاء إلى حدّ كبير مُؤيّدي ترامب في استحضار خطاب فوقيّة الأبيض، والتعبيرات شديدة العنصرية ضدّ السود بشكل خاص. إلا أنّ هذه الكراهية الشعبوية تمدّدت في بلد الأنوار، حيث التعليم متاح للجميع، ونظام الحمايات الاجتماعية يضمن الكرامة للجميع، ممّا يستدعي البحث عن جذورها خارج التحليل التقليدي للخلفية المجتمعية للناخبين المُؤيّدين.
يصعب تقبّل مشهد هذه العنصرية المُقذعة وكأنّها، كما في الحالة الأميركية، نتاج عزلة الناخب الأبيض المحروم من الرخاء الاقتصادي، كما من مُقوّمات العيش الكريم. هل يتحمّل الإعلام إذن مسؤولية "تعميم" أو "تطبيع" خطاب اليمين المُتطرّف عبر شرعنة خطاب قومي شعبوي يقوم على الترويج لخطر "الغريب"، المُعتدي على الهُويّة "الصافية" لأصحاب "الحقّ الأصلي" في المواطنة، باعتبارها أيضاً الردّ الطبيعي والمُتوقّع لنزق اليسار الراديكالي وشعبويته؟... عزّز انجذاب الإعلام التقليدي لما هو خارج عن المألوف كلّه شرعنة هذه التعبيرات، التي يراها بعضهم "أصيلة"، أي أنّها تعكس صفاء الشارع وعفويته في وجه الخطاب المتأنّق و"المنافق" للنخب ذات المصالح المتشابكة مع السلطة. هذا السعي خلف الغرائبية و"صفاء" الانتماء، على خطى الإعلام الحديث، أطلق العنان لكلّ التعبيرات العنصرية باعتبارها، ليست فقط إحدى مكوّنات النقاش العام، بل مِلْحُه. مساحات واسعة من التغطية الإعلامية مُنِحت مجّاناً لحملة ترامب، قبل انتخابه رئيساً للجمهورية عام 2016 وبعده، عبر التركيز على تغريداته وتقديمها نموذجاً جديداً للتواصل، قد يكون نوعاً من الثورة على الأنماط التقليدية للتواصل السياسي، في حين أنّها قدّمت في الحقيقة حالة دراسة للفظاظة وانعدام اللياقة المدنية في التواصل السياسي (incivility). قدّم الإعلام الليبرالي التعليقات العنصرية العنيفة التي أدلى بها مُؤيّدو ترامب في المهرجانات الانتخابية على أنّها مشهد ترفيهي تستوحي منه برامج الفكاهة السياسية.
قدّم الإعلام الليبرالي التعليقات العنصرية العنيفة التي أدلى بها مُؤيّدو ترامب في المهرجانات الانتخابية على أنّها مشهد ترفيهي تستوحي منه برامج الفكاهة السياسية
الأمر نفسه ينطبق على زعيم اليمين المُتطّرف البريطاني نايجل فاراج، وقد شكّلت عودته السياسية زعيما لحزب إصلاح بريطانيا استقطاباً كبيراً للإعلام، الذي ركّز على تغطية حملته الانتخابية باعتبارها الأكثر خروجاً عن المألوف، الأكثر شعبوية وإثارة للعناوين البرّاقة في الصحافة. لم يمنع الأمر زعيم اليمين المُتطرّف البريطاني من شن حملة ضدّ الإعلام مُتّهماً وسائل واسعة الانتشار، منها هيئة الإعلام البريطانية العمومية (بي بي سي)، وصحيفة الديلي ميل اليمينية الشعبوية، والقناة الرابعة (تشانل فور)، بالتحيّز ضدّه بهدف إسقاطه. وكانت الأخيرة قد نشرت تحقيقاً حول عنصرية أفراد في الحملة الانتخابية لزعيم اليمين المُتطرّف، في حين ردّ الأخير باتهام القناة بفبركة التحقيق بهدف الإساءة لحظوظه الانتخابية.
في الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، نقل الإعلام البريطاني شهادات لمواطنين يشكون من "غزو" الأجانب بيئتهم، بما في ذلك استحالة الحصول على مساكن شعبية بسبب هذه المنافسة، وكذا بالنسبة لفرص العمل. لم يُحقّق الإعلام في صوابية هذه الادّعاءات التي شكّلت محور التغطية الإعلامية المعنية بالتقاط نبض الشارع. أظهرت الأرقام، ما بعد التصويت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، قصوراً في اليد العاملة في قطاعات حيوية، منها الزراعة والصحّة العامة، مع هجرة قسم كبير من الطاقم الطبي الأوروبي في المنظومة الصحية البريطانية لانتفاء الحوافز المالية، واستفحال ما سمّيت البيئة المعادية للأجانب في ظلّ حكم المحافظين.
حان الوقت للإعلام التقليدي ليطرح السؤال حول كيفية البحث عن أجوبة بديلة لكيفية التعاطي بمهنية وإنصاف (fairness) مع أحداث لا يمكن التعامل معها من خلال التعريفات التقليدية للمهنية من المنظور الغربي المعياري. يبدو هذا الإعلام، أكثر من أيّ وقت مضى، متخبّطاً في هذه المعركة، ولو أنّه في المنظور الشعبي يبدو المسؤول الأول عن هذه الأزمة، والمُتّهم الرئيس فيها.