الاختفاء الغامض
نعرف ما يحدُث حين يرنّ أطفال الجيران العابثين جرس الباب ثم يهربون، فتضطرّ لتخرج رأسك من فرجة الباب وتنظر من الطارق، ثم تعود أدراجك مغلقا باب شقتك الصغيرة بعنف، ولاعناً سوء تربية هؤلاء الملاعبين الذين أصبح لديهم متسعٌ لمشاكسة الجيران مع بدء الإجازة الصيفية، ولكنك لا تعرف أن هذه الحركة السريعة قد تكون فرصةً لكي يتسلّل قطك الأليف الممتلئ فضولاً للخروج إلى العالم الخارجي. وهكذا ينسلّ من بين فرجة ساقيك، ولا تكتشف أنه قد أصبح في الخارج وأنت تستدير لكي تنهي ما بدأت عمله، قبل أن يرنّ جرس الباب وينتزعك من انهماكك السابق.
هكذا كنتُ أتخيّل سيناريو اختفاء قطّنا، وهو قطّ ابنتي الصغيرة تحديدا، والذي حصلت عليه كهدية قيّمة من صديقتها المقرّبة، ومع أول حادثةٍ تحدُث معنا في البناية الجديدة التي انتقلنا للسكن فيها، فاكتشفت أنني أعاني من خوفٍ مبهم من الجيران الغرباء جعلني أتوجّس الشر منهم، وأتحوّل إلى قطّةٍ مذعورةٍ تخشى الاقتراب من البشر عموما.
وهكذا دارت الهواجس المخيفة في عقلي، ولم أسامح نفسي عليها لاحقا وحتى اللحظة، فعلى عكس المتوقّع، بحثت في الاتجاه الخاطئ. وكما كان يحدث مع مفتش الشرطة الحاذق في الروايات البوليسية المترجمة إلى العربية، بدأت بطرق باب الجيران في الطابق السفلي، وشرحت لهم قصة اختفاء القطّ وتخيلت سريعا ضحكة خبيثة ترتسم على وجه جاري، وهو ينفض ذراعيه إلى جانبيه، ويعلن أنه لم ير القط أبدا، ولم يسمع حتى مواءه، بل إنه أنهى لقاءه به وهو يغلق الباب بقوله إنه لا يعرف من الأساس أنني أمتلك قطّا، وهنا تملكني شكٌّ يقترب من اليقين أنه قد أخفى القطّ، خصوصا أنني سمعت من الحارس أنه من هواة اقتناء الحيوانات الأليفة.
وكان علي طرق باب الجيران في الطابقين اللذين يقعان أسفل الطابق الذي تقع قيه شقّتي الصغيرة قبل وصول حارس البناية لكي يقوم بمهمة مراجعة كاميرات المراقبة، ويبدو أنه قد خرج لقضاء حاجة عاجلة لأحد الجيران الذين يُغدقون عليه المال. وهكذا كنت أتلقى الإجابة نفسها من كل الجيران. وفيما حاول طفل صغير توارى خلف أمه أن يكتم نظرة شيطانية تخيلتها أيضا، وأدّت إلى أن فأرا مشاكسا تقافز بين ثنايا ملابسي، بل تخيّلت الطفل يجذب قطّنا العزيز من ذيله، ويدخله عنوة إلى داخل بيتهم، وزاد من شكّي أن أمه التي لقبتها بالمتواطئة قد تعجّلت إغلاق باب شقتهم خلفي.
راودتني أفكارٌ ليست طيبة مع ابنتي، حين عدتُ إلى شقّتي لألتقط أنفاسي، وأخبرها بما حدث. وبالطبع، أسهبت في شرح ظنوني، لأني فقدت الأمل في العثور عليه، وحذّرت ابنتي التي بكت بشدة أن علينا ألا نفتعل المشكلات مع الجيران بسببه. والحقيقة أن ابنتي بدت تشاركني الخوف المبهم من الغرباء وتوقّع الشر منهم، ويبدو أن الإنسان يفعل ذلك، حين يمسّه خطرٌ قريبٌ، فيبدأ في تخيّل سيناريوهات وأحداث غير حقيقية ورسمها، بل إنه يملأ الدنيا صراخا بأن الحياة قد تحوّلت إلى غابة من الإسمنت الذي اخترعه الإنكليز في القرن التاسع عشر، أما في الأوقات العادية، وحيث تسير الحياة بروتينها اليومي، فالجميع لطفاء حتى يثبت العكس.
بعد ساعاتٍ من البحث العقيم والمفاجأة التي فجّرها الحارس بعد مراجعة الكاميرات، وهي أنه لم يظهر أي أثرٍ لتسلّل القط من باب شقّتي إلى الأسفل، كنت أقف في الشرفة أمسح دموعي، حين سمعت مواءً ضعيفا يأتي من الأسفل. وحين نظرت إلى الأسفل وجدتُ القط عالقاً فوق قائم شرفة الجيران، ويبدو أنه قد سقط وهو يمارس هوايته بالجلوس على الحافّة، ورأيت، بلمح البصر، جاري ذا الضحكة الخبيثة يتدلّى من شرفته، لكي يمسك بالقط، فيما خرج باقي الجيران من بيوتهم فرحين بالعثور عليه، وربَت الطفل الذي تخيّلت أنه يخفي ضحكة شيطانية فوق شعره في سعادة حقيقية.