الاستخدام السياسي للاغتصاب ومسؤولية تحرّي الحقائق
ارتفعت، أخيراً، وتيرة محاولات الإعلام العالمي لتفكيك ادّعاءات أساسية في الدعاية الإسرائيلية، استُخدمت بشكل رئيس لتبرير حرب الإبادة في غزّة، منها اتّهام مقاتلي حركة حماس بارتكاب سلسلة من جرائم الاغتصاب في حقّ النساء ضحايا هجمات 7 أكتوبر (2023). أبرز آخر هذه المحاولات تحقيقٌ نشرته صحيفة التايمز البريطانية تحت عنوان: "تقول إسرائيل إنّ حماس استخدمت الاغتصاب سلاحاً... هل تدعم الأدلّة الادّعاء؟". يُعتبَر التحقيقُ خطوةً مُهمّةً في تقصّي الادّعاءات الإسرائيلية بشأن وقوع عمليات اغتصاب واسعة النطاق على يد مقاتلي "حماس"، بناءً على شهادات فرقةِ إنقاذٍ من متطوّعين غير مُجهّزين للتحقّق من مسائل في تلك الخطورة، بما في ذلك النقاشات بشأن الاستخدام السياسي للادّعاءات والاعتراضات عليها، في الداخل الإسرائيلي، من حقوقيّين وأكاديميّين بارزين.
استخدمت الروايةُ الصورةَ المقولبةَ والعنصريةَ ضدّ الرجل العربي، باعتباره مصدر عنف أو خطر أو حتّى مغتصباً للنساء
يُقدّم التحقيقُ إفادةً مفصّلةً لمسار فبركة الرواية التي هزّت الرأي العام العالمي، واستُخدمت بشكل أساسي في الخطاب الدعائي الإسرائيلي لدعم مقولة الدفاع المشروع عن النفس في وجه "اعتداءات حماس". أهمّية التحقيق، الذي يدعم تحقيقاً أوّليّاً سابقاً نشرته وكالة أسوشييتد برس، تظهر، أيضاً، في أنّه يُقدّم صورة عن الجدل في الداخل الإسرائيلي بين الاستخدام السياسي للرواية والاعتراض العلمي على الاستخدام، والتحدّيات التي واجهتها بعثة الأمم المتّحدة لتقصّي الحقائق، بعدما وجدَت نفسها أمام مُهمّةٍ فائقة الصعوبة، نظراً إلى غياب الأدلّة الجنائية، والخوف من تهمة معاداة السامية في حال توصُّل التحقيق إلى نتائج قد تُفسّر أنّها ضدّ النساء اليهوديات. لا يتوقّف التحقيقُ عند الوقائع العملية، التي شكّلت الرواية الإسرائيلية بشأن استخدام الاغتصاب وسيلةَ حربٍ من مقاتلي "حماس"، بالاعتماد على تصريحات فريق الإنقاذ غير الرسمي، الذي أُرسل للعثور على الجثث، بل يتناول، أيضاً، وبشكل خاص، رمزيّة السردية الإسرائيلية في التاريخ اليهودي لجهة استغلال "تروما" اضطهاد النساء اليهوديات، وتجييرها لحساب الحملة الإسرائيلية لكسب الرأي العام في حرب الإبادة. استخدمت الرواية تاريخ الاضطهاد اليهودي، الحاضر بقوّة في الذاكرة الجماعية باعتباره "ذاكرة تاريخية"، عبر استحضار عمليات الاغتصاب التي تعرّضت لها النساء اليهوديات في حملات التصفية الإثنية لليهود في روسيا وشرق أوروبا، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كذلك استخدمت الروايةُ الصورةَ المقولبةَ والعنصريةَ ضدّ الرجل العربي، باعتباره مصدر عنف أو خطر أو حتّى مغتصباً للنساء.
حالت الحملة التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية في أعلى مستوياتها دون إمكان تقصّي الحقائق بشأن ما جرى في هجمات 7 أكتوبر (2023)، عبر ترويج روايات تضليلية من كبار المسؤولين إلى رجال الشرطة، والناشطين والمسعفين والإعلام الإسرائيلي، كما العالمي. الهدف من هذه الحملة، التي تبنّى روايتها الناجون من الهجمات، ونقلوها في شهاداتهم للإعلام العالمي، كان الضغط على تحقيق الأمم المتّحدة للتوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ الاغتصاب وقع بشكل لا يحتمل أدنى شكّ، وأنّه كان منهجياً وواسعَ الانتشار بأمر من "حماس" وبتنفيذٍ من مقاتليها. لم تتح المعطيات المتوافرة تأكيد حجم كهذا لجرائم اغتصاب، باستثناء شهادة وحيدة لرهينة سابقة، قالت إنّها تعرّضت للاعتداء الجنسي خلال احتجازها، بما ينفي وقوع جرائم منهجية واسعة النطاق، أو أقلّه، لا يثبتها. الأكثر أهمّية من ذلك كلّه، بحسب التحقيق، أنّ الاستخدام السياسي لادّعاءات الاغتصاب يحول دون تحقيق العدالة للضحايا النساء عبر منع المحاولات الجدّية لتقصّي حقيقة ما جرى في الهجمات. غابت عن الإعلام العالمي، الذي سارع إلى تبنّي الرواية الإسرائيلية وتعميمها من دون تحرّيها، النقاشاتُ الداخليةُ في إسرائيل، بما في ذلك اعتراض خبراء على التقرير، الذي اعتمد على "غير مهنيين" (المتطوّعين المتديّنين الذين دفنوا الجثث)،
والذين قدّموا "تحليلات جنائية غير دقيقة وغير موثوقة"، خصوصاً أنّ هؤلاء المتطوّعين في فريق الإنقاذ (زاكا) لا معرفة لهم بأجسام النساء، لتديّنهم الشديد، ما يزيد من عدم موثوقية شهاداتهم، ويُفسّر الربط بين جثث النساء الضحايا والذاكرة التاريخية لاغتصاب النساء اليهوديات، التي سارع هؤلاء المسعفون إلى استحضارها، إلى جانب صور أخرى من المذبحة النازيّة، مثل إشارة مسعفين إلى أنّهم شاهدوا تلالاً من الجثث في مسرح الهجوم.
غاب عن الإعلام العالمي، أيضاً، دور الحكومة في تشجيع استحضار الذاكرة الجماعية وترويجها في مواقع القرار العالمي. بعض هذه الروايات التضليلية رُوّجت بشكل خاص عبر مساعدة مقرّبة من نتنياهو ساهمت في نشر أكثر الروايات جذباً للإعلام مثل رواية الحامل، التي انتزع جنينها من أحشائها، وروّجتها زوجة الرئيس الإسرائيلي في مقالة لـ"نيوزويك"، لم تُصحّح بعد. ومن الروايات، أيضاً، صور لمجنّدات قتيلات تبيّن لاحقاً أنّها لمقاتلات كُرديات. أثارت حملة التضليل هذه اعتراضات حقوقيّين وأكاديميّين إسرائيليّين بارزين بشأن استخدام الأجندة الجندرية النسوية سلاحاً لتبرير الحرب في غزّة، وتسييس الاغتصاب، فضلاً عن اعتماد تشريعات تمييزية أبرزها ما سُمّي "قانون الإرهاب الجنسي"، وهو مشروع قانون قدّمه نوّاب من اليمين واليمين المُتطرّف، وتبنّاه الكنيست في يوليو/ تمّوز 2023، ويقضي بمضاعفة العقوبة على الجرائم الجنسية التي ترتكب بدافع "قوميّ". وبذلك، يحاكم مرتكبو هذه الجرائم أمام قانونَين مختلفَين، بحسب جنسية المرتكب أو هويته الإثنية، ما يعني أنّ رجلاً فلسطينياً أو عربياً متّهماً بجرم كهذا يُحاكَم وفقاً لقانون وإجراءات مختلفة تماماً عن رجل إسرائيلي متّهم بارتكاب الجرم نفسه، تحت سقف الدولة "الديمقراطية".
تعتبر الرواية الإسرائيلية الدعائية للفظائع، التي اتُّهم مقاتلو "حماس" بارتكابها، حالةً خاصّةً ونادرةً لخرق الإعلام تقاليده في تحرّي الحقائق
يشكّل تقصّي الحقيقة السبيل الوحيد لتحقيق العدالة للضحايا، كذلك فإنّه السبيل الوحيد لوقف الاستخدام السياسي لجريمة الاغتصاب عبر تبرير حرب إبادة راح آلاف المدنيين الأبرياء ضحيتها، ولا يزالون يُقتلون يوميّاً. أيضاً ساهم هذا الاستخدام في ترويج الصور النمطية للعرب والفلسطينيين باعتبارهم "غير حضاريين"، وتلك إيحاءات عنصرية ردّدها الناجون من هجمات السابع من أكتوبر (2023) أو أهالي الضحايا في شهاداتهم، وأحياناً الصحافيون أنفسهم. تعكس قضية تسييس اغتصاب النساء ضحايا هجمات "7 أكتوبر" مأزقاً كبيراً لدى الإعلام الغربي، أو معظمه، يتمثّل بخرق تقاليدَ أساسيةٍ في تغطية قضايا متنازعٍ عليها عبر نقل وجهات النظر المختلفة، ومقارعة ادّعاءات السياسيين بالأدلّة من دون اعتبارها حكماً من المسلّمات. تعتبر الرواية الإسرائيلية الدعائية للفظائع، التي اتُّهم مقاتلو "حماس" بارتكابها، حالةً خاصّةً ونادرةً لخرق الإعلام تقاليده في تحرّي الحقائق في مسائل بتلك الخطورة، وغياب آليات المراجعة لهذه الوسائل بشأن نقلها لأكاذيب ترويجية. لعلّ مقالة التايمز، المُهمّة، ومقاربتها للحقائق بشأن الرواية الاسرائيلية التضليلية، بما في ذلك الأصوات الإسرائيلية المُعارِضة للاستخدام السياسي للاغتصاب، خطوة في هذا الاتجاه.