الانتخابات الجزائرية .. خطوة أخرى إلى الوراء
تقدّم الانتخابات التشريعية المبكرة التي شهدتها الجزائر، يوم السبت الماضي، دليلا آخر على الأزمة التي تتخبّط فيها السلطويات العربية، على الرغم من المتغيرات التي حملها العقد الأخير. وفي الوقت الذي يُفترض أن تطلق هذه السلطويات مشاريع إصلاحية جادّة تُجنب مجتمعاتها مخاطرَ التفكّك والاحتراب، تمضي في تدوير بنياتها وشرعياتها المتآكلة بشكلٍ يبعث على الأسى والإحباط. وعلى الرغم من الرسالة القوية التي بعثها الحراك الشعبي في الجزائر، منذ انطلاقه في فبراير/ شباط 2019، إلا أن العسكرتارية الحاكمة لا تزال مصرّة على الالتفاف على مطالبه وتعويمها في وعودٍ كاذبة، مستغلةً إخفاقه في إفراز قياداتٍ سياسيةٍ ميدانيةٍ قادرة على تحويل مطالب المحتجين إلى خريطةٍ سياسيةٍ واضحة، والإرباكَ الذي أحدثته الجائحة بسبب ذيولها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وفشلَ الموجة الثانية من الربيع العربي في تحقيق أهدافها.
لم تأت هذه الانتخابات بجديد، في ظل تصدّر الأحزاب التقليدية نتائجها، فقد حازت جبهة التحرير الوطني المرتبة الأولى بـ105 مقاعد، وحركة مجتمع السلم الإسلامية المرتبة الثالثة بـ64 مقعدا، متبوعةً بالتجمّع الوطني الديمقراطي الذي حاز 57 مقعدا. وعلى الرغم من الصعود اللافت للمستقلين الذين حلوا في المرتبة الثانية، بعد حيازتهم 78 مقعدا، إلا أن ميزان القوى الحالي، ورفض النظام تقديم تنازلاتٍ فعلية، واستمرار جذوة الحراك متقدةً على الرغم من تراجع قوته، ذلك كله لا ينبئ بحدوث انفراج في السياسة الجزائرية على المدى القريب. صحيحٌ أن النظام حاول تجديد منظومة النخب التقليدية، وتغييرَ الوجوه التي ألِف الرأيُ العام وجودها داخل البرلمان، وتشبيبَ قاعدة المرشّحين، غير أن ذلك لم يكن أكثر من محاولةٍ لإضفاء الشرعية على هذه الانتخابات، وإعطاءِ الانطباع بأن تغييرا فعليا قد حدث في بنية هذا النظام وآليات اشتغاله، وتجديدِ قاعدته الاجتماعية. ويبدو أن ذلك لم ينطلِ على الرأي العام، وهو ما تدلُّ عليه النسبة المتدنية للمشاركة التي لم تتجاوز 30,20 %. وهي نسبةٌ لا تعكس، فقط، أزمة النظام وتقلص هامش الحركة حوله، بقدر ما تقدّم، أيضا، مؤشّرات على ما قد تكون عليه الأوضاع في الجزائر، في ظل تصلّب مواقف الحراك الشعبي الذي يصرّ على عدم التوقف عند تنحي الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، ومحاكمةِ بعض رموز نظامه، مطالبا بقطيعةٍ سياسيةٍ كبرى، تقود إلى تأسيس الجمهورية الثانية. وحين يقول الرئيس الحالي، عبد المجيد تبّون، إن نسبة المشاركة، في هذه الانتخابات، لا تهمّه بقدر ما تهمه ''شرعية'' الأشخاص الفائزين، فذلك يكاد يكون إقرارا ضمنيا بتآكل شرعية النظام ونفاد مواردها. ومعروفٌ أنه كلما تتدنّى نسبة المشاركة في الانتخابات تستجدّ أسئلة الشرعية السياسية التي تستند إليها الأنظمة. وفي أحيان كثيرة، تتحول المشاركة المتدنية إلى نوعٍ من العصيان المدني. ولذلك تشكل نسبة المشاركة تحدّيا سياسيا بالنسبة للأنظمة السلطوية، سيما التي يُشكل الدعم الخارجي أحد مصادر قوتها واستمراريتها.
تقدّم الانتخابات في المنطقة العربية مؤشّرا على أزمة الشرعية السياسية التي تواجهها السلطويات الحاكمة. ولعل المفارقة الأكثر دلالة هنا أنه في الوقت الذي يُفترض أن تشكل الانتخابات، رئاسيةً أو تشريعيةَ، فرصة لإضفاء شرعية جديدة، تأتي نتائجها معكوسةً أمام اتساع رقعة العزوف الانتخابي، وبالأخص داخل الطبقة الوسطى التي باتت مصدر تهديد حقيقي لهذه السلطويات والنخب المتحالفة معها.
تكشف الانتخابات الجزائرية استخفافَ الأنظمة العربية بما استجدّ من تحوّلٍ واضح في أنماط الوعي والإدراك خلال العقدين الأخيرين، وإصرارها على توظيف الاستحقاقات الانتخابية في إعادة إنتاج مؤسساتها المتهالكة، في تحدٍّ سافرٍ لتطلعات شعوب المنطقة إلى القطع مع الاستبداد والفساد، وبناءِ أنظمةٍ ديمقراطية ترتكز على فصل السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة والحَكامة الجيدة، فمعظم البرلمانات العربية لا تقوم بأدوارها في التشريع والرقابة على الحكومات والنهوض بالممارسة السياسية وتحديثها، ولا تعدو كونها أكثر من مؤسساتٍ لتدجين النخب، وصناعة الريع السياسي، وتلميعِ الواجهة الخارجية للأنظمة.