البشر، ثمرة اختلاط وتزاوج
لا بدّ لمن يراقب المشهدَ الفرنسيّ، من أن يشعر بأسى كبير على ما آلت إليه البلادُ التي كانت تُعرَّف بأنها بلاد حقوق الإنسان والحرية والمساواة. فاليوم، استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة، يتبارى أنصافُ مرشّحين على إدخال النقاش السياسيّ في متاهة العنصرية والإسلاموفوبيا والتطرّف، وصبّ الزيت على النار، سعيا إلى كسب أصوات ناخبين يُعمل على استغلال مخاوفهم وتغذيتها. فشخصٌ، كالصحافي إريك زيمور، لا يفوّت مناسبة لازدراء النساء، واعتبارهن أدنى ذكاء من الرجال، ولتصدير كراهيته المسلمين، معتبرا أنهم مشاريع إرهابيين وجانحين يسيئون إلى العادات الفرنسية. يحتلّ الشاشات الصغيرة ووسائل الإعلام والتواصل، ويصعد في الاستفتاءات مرشّحاً رئاسياً، حتى إن مراقبين اعتبروه "حدث" الانتخابات الرئاسية المقبلة، على الرغم من خلوّ طروحاته من أي نقاشٍ سياسي جدّي. ومع ذلك، ومع تصاعُد حركات اليمين المتطرّف في أوروبا، وتزايد الدعوات إلى إنقاذ الهوية الوطنية من الانحلال وإغلاق الحدود في وجه الهجرة الشرعية وغير الشرعية، خوفا من الآخر (المسلم تحديداً) الذي يريد الحلول مكان أهل البلاد، كما تدّعي نظرية "الاستبدال الكبير"، أو الآتي لاستغلال موارد أهلها وسرقة لقمة عيشهم والإساءة إلى ثقافتهم ومعتقداتهم، تُثبت دراساتٌ جادّة وجديدة تفاهة هذه الطروحات وسير تلك المجتمعات "المتقدّمة" إلى الوراء، وبشكل معاكس لما تُظهره البحوث المتعلّقة بتاريخ التطوّر البشريّ.
عن دار أوديل جاكوب، صدر أخيرا كتاب مهم بعنوان "شعب البشر، في الآثار الجينية للهجرات، اختلاط الأجناس والتكيّفات"، للباحث الإسباني - الفرنسي لويس كوينتانا مورسي، وهو العالِم الجيني، والأستاذ المحاضر في الكولاج دو فرانس، ومؤلف أعمال عديدة. يقول مورسي، في مقدّمة كتابه، إنه سعى إلى الإجابة عن الأسئلة الرئيسية الثلاثة، لا تني البشرية تطرحها: من أين جئنا، من نحن، وإلى أين نتجه؟ فمع نشوء العلم الجيني الحديث الذي بدأ مع اكتشاف الـ DNA عام 1953، ومع تحقيق تسلسل الجينوم في بداية القرن الواحد والعشرين، بتنا قادرين على اكتشاف العدد الأكبر من الإجابات، خصوصا أن علم الجينات تجاوز البيولوجيا حصراً، ليصبح أداة من أدوات كتابة التاريخ.
أجل، العظام التي نقع عليها خلال عمليات التنقيب تخبرنا الكثير عن تاريخ الكائنات البشرية، كما هي عظام الصبيّة التي اكتُشفت في جنوب سيبيريا، واتضح أنها تعود إلى خمسين ألف سنة، وأنها وُلدت من أمّ نياندرتالية ومن أب دينوزيفي، وهما سلالتان أو نوعان بشريان انقرضا كلّياً. لقد أظهر تسلسل الجينوم المتضمّن نحو ثلاثة مليارات حرف، أن نوعنا يضمّ أكثر من جينوم واحد، بل إنه أشبه بفسيفساء ضخمة مركّبة من جينومات عدّة تمتد على أكثر من مائتي ألف عام، وإن هذا التاريخ المديد لتطوّر النوع البشري يُظهر أيضا جينومات تلك الأنواع البشرية المنقرضة التي انحدرنا من اختلاطها بأجناس أخرى.
وعلى عكس ما أشيع، واعتُبر ثابتةً علميةً حتى أمس قريب، أظهرت دراسة الجينوم أن إنسان النياندرتال والسابيانز تمكّنا من التزاوج ومن إنجاب ذريةٍ، بدليل وجود من 1% إلى 3% من جينات نياردانتال اليوم في جينات غير الأفارقة. لقد تخالطت الأنواعُ البشرية في ما بينها، وكانت عديدةً، من بينها إنسان دينيزوفا الذي تمّ اكتشافه أخيرا من خلال إصبع وُجد في سيبيريا. ويذكر مورسي أن اختلاط الأجناس هو القانون السائد، وأن التنوّع حقيقة علمية وليس أيديولوجيا، فالإنسان هو أشبه بباتشوورك عملاق، تاريخي وجغرافي في آن، تخالطت فيه الشعوب والأجيال. لا بل إن هذا التخالط هو في أساس تطوّر البشر ومقدرتهم على التكيّف مع ظروف العيش في أماكن وعرة قاسية، وهو ما مكّنهم من أن يأهلوا الكرة الأرضية بمجملها، بدءا من أفريقيا، مهد البشرية قبل نحو 60 ألف عام، ثم أوروبا وآسيا وأستراليا منذ 50 ألف عام، وأميركا منذ 30 ألف عام، وصولا إلى جزر أوقيانيا البعيدة، فقط منذ ألف عام.