الدستور العراقي وشيطان التفاصيل
كانت بغداد ضحى يوم الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2005 تلملم بقايا تفجيرات ضربتها مفخّخات يمنة ويسرة. حينها كان التحشيد السياسي من مختلف أقطاب العملية السياسية التي تشكّلت عقب الغزو الأميركي في 2003، ينصبّ باتجاه الدستور الذي كتبته ثلة من ساسة ما بعد الغزو، غالبيتهم لا تفقه ما معنى دستور، وأفضلهم ممن يحمل شهادة قانونية يمكن له أن يكون قادراً على تفكيك شيفرات ما يُكتب؛ قُتل على يد مليشيات مسلحة، لتبقى لجنة كتابة هذا الدستور سياسيةً أكثر من كونها قانونية.
يومها، كنت أعمل في صحيفةٍ تتبع لأحد الأحزاب التي تشكلت منها العملية السياسية عقب الغزو الأميركي، كعادة كلّ وسائل الإعلام التي صدرت عقب ذاك الغزو المشؤوم. وكانت الصحيفة؛ تبعاً لموقف الحزب، تثقف الناس على التصويت بـ"لا" للدستور، كونه مليئاً بالثغرات القانونية، وإقراره سيؤدّي بالعراق إلى الدخول في نفق دستوري طويل الأجل.
جهزنا العدد الموعود، والذي كان سيصدر في اليوم نفسه المقرّر للاستفتاء على الدستور، 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وذهبنا به إلى المطبعة، لنفاجأ ليلاً بإعلان الحزب موافقته المشروطة على تمرير الدستور مقابل ضماناتٍ أعطيت له بشأن فقراتٍ خلافية، لتبقى الصحيفة حبيسة أدراج المطبعة من دون أن ترى النور، ويمر الدستور ويدخل العراق، من يومها في رحمة تفسيراته التي لا تصبّ إلّا في صالح من كتبوه.
استقال رئيس تحرير تلك الصحيفة، وقفل راجعاً إلى عمّان، على الرغم من أنّه عضو في ذلك الحزب الذي أعطى الموافقة على تمرير الدستور، فهو كان يرى فيه سبباً سيولّد المزيد من المشكلات للعراق، قبل أن يقنعه قادة الحزب بالعودة مقابل منصب رفيع في الحكومة التي تشكلت عقب انتخابات 2005، فعاد واستلم المنصب، ونسي كلماته التي كان يرعد بها ويزبد حيال مصير العراق الأسود في ظل دستور مليء بالثغرات والعثرات.
الدستور العراقي كتبه أشخاص يريدون أن يؤسّسوا لإدامة الصراع وزيادة تعقيدات المعقد
في جلسة السبت الماضي، على سبيل المثال والمقرّرة لانتخاب رئيس الجمهورية، فشلت الكتلة الأكبر في تمرير مرشّحها لرئاسة الجمهورية، ريبر أحمد، لأنّ القوى السياسية المعارضة لدعوة زعيم الكتلة الصدرية، مقتدى الصدر، نجحت في دفع الثلث من أعضاء المجلس إلى عدم حضور الجلسة، لتؤجل إلى يوم غد الأربعاء. ليس هذا فحسب، بل لم يبين هذا الدستور الذي حدّد 30 يوماً لاختيار رئيس الجمهورية منذ أول جلسة للبرلمان عقب الانتخابات المخارج الدستورية في حال فشلت القوى السياسية في تحقيق النصاب، والمقرّر بثلثي أعضاء المجلس لاختيار الرئيس، وما هي الآجال الممكنة لمثل هذا الفشل، لتترك كلّ شيء رهيناً بالتوافق.
وأنت تقرأ مثل هذه الفقرات، تتأكد أنّ هذا الدستور كتبه أشخاص يريدون أن يؤسّسوا لإدامة الصراع وزيادة تعقيدات المعقد، على خلاف أي دستور في العالم، يفترض به أن يسهم في تفكيك العقد وتوضيح الملابسات التي قد تعتري العملية السياسية والديمقراطية في البلد.
الأكثر من ذلك، الدستور الذي كتبته مجموعة من الساسة جاءت محمّلة بروح الانتقام وعُقد الماضي لم تلتزم به، بل جعلته بمثابة خيمة لصفقاتها وتفاهماتها، فمتى ما جاءت الصفقات متوافقة مع الدستور، هللت تلك القوى لهذا الدستور، ومتى ما جاء الدستور على خلاف ما تريد أو تشتهي، ركنته جانباً، وركلته حتى، ليخرج علينا، من وقتٍ إلى آخر، بعض قادة تلك القوى السياسية مردّداً عبارته "الدستور مو قرآن". بهذه العقلية، يجري التعامل مع الدستور الذي يفترض أنه وثيقة تعاقد وتعاهد بين مختلف أبناء الشعب الواحد، والذي يُفترض أن يكون دليلاً لساسة البلد في كيفية قيادة الدولة والوصول بالشعب إلى ما يصبو إليه.
يكاد التعارض بين الدستوري والسياسي في العراق يكون مكملاً بعضه بعضاً
يكاد التعارض بين الدستوري والسياسي في العراق يكون مكملاً بعضه بعضاً، فبين دستورٍ يعاني من ثغرات وهفوات وبين قوى سياسية ترى في هذا الدستور حاجتها متى ما احتاجت له وركنته جانباً، متى ما تعارض مع طموحاتها ومصالحها، تكتمل سوريالية المشهد العراقي.
مقتدى الصدر، زعيم الكتلة الصدرية الفائزة في الانتخابات، مصرّ على المضي في مشروعه بتشكيل حكومة أغلبية بالتحالف بينه وبين تحالف السيادة "السُني" والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني. لكن ماذا إذا فشلت جلسة الغد في جمع ثلثي أعضاء النواب لتمرير رئيس الجمهورية؟ لا جواب دستورياً لهذه المعضلة. وبالتالي، قد يحسم اللجوء إلى التوافق المشكلة إذا ما استعصت أكثر، وهو ما تريده قوى "الإطار التنسيقي".
يعتقد بعضهم أنّ هذا المخاض السياسي أمر طبيعي في إطار تشكل ديمقراطية ناشئة في العراق، وسيكون هذا الاعتقاد صحيحاً لو أنّ تلك القوى التي تتحكّم بمقود العملية السياسية جاءت نتاجا طبيعيا لتغير النظام السياسي في العراق، أو أنّها فعلاً جاءت من رحم الشعب، لكننا نعلم جيداً كيف جاءت هذه القوى، ومن سهّل لها التحكّم بمقدّرات الشعب وكيف ولماذا.
المحصلة أنّ حلبة السياسة في العراق ستشهد مزيداً من الصراعات، ويبقى الدستور عاملاً مساهماً في زيادة وتيرة تلك الصراعات، ويبقى ذلك العدد من الصحيفة الذي لم يرَ النور أصدق بكثير من الموقف الذي اتخذه حزب الصحيفة، ومرّر من خلاله الدستور الملغوم.