السلطة الفلسطينية المتجدّدة في العقل الإسرائيلي
بإعلانها عن هدفها إنهاء سلطة حركة حماس في قطاع غزة، في اليوم الذي سيلي انتهاء الحرب عليه، تسعى إسرائيل إلى بيع جلد الدبّ قبل صيده، فوزيرالدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت كان قد تقدّم أخيرا بخطّةٍ تبدو كأنها من أفلام الخيال، إذ يقضي ما تسرّب منها بتولّي جهة فلسطينية لم تحدّد هويتها، إدارة شؤون القطاع سياسيا ومعيشيا، مع احتمال أن توكل هذه المهمّة لـ"مشايخ العشائر" والعائلات الغزّية، المعروفة لجهاز الشاباك، بعد تقطيع القطاع إلى مناطق تقع تحت سيطرة تلك العشائر، وذلك في محاولةٍ لاستنساخ تجربة "روابط القرى" الفاشلة، في الضفة الغربية في سبعينيات القرن الماضي. والحديث عن شكل الحكم في قطاع غزّة بعد الحرب، أصبح مرتبطا بما تطرحه الولايات المتحدة وأطرافٌ أخرى، عن سلطةٍ فلسطينيةٍ "متجدّدة" تتولى حكم قطاع غزّة والضفة الغربية.
ومع غرق الجيش الإسرائيلي في وحل غزّة، وبُعده عن تحقيق هدفه بهزيمة "حماس"، واستبدال حكمها بحكم وفق المقاسات الإسرائيلية، بعد دخول حربه عليها شهرها الرابع، فإن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، كان قد أعلن في مشاركته في جلسة للجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست، أنه "لا جدوى من الحديث عن السلطة الفلسطينية، كجزء من إدارة غزّة، ما دامت السلطة لم تشهد تغييرا جوهريا... وإذا كانوا جادّين في التغيير، فليثبتوا ذلك أولا في الضفة الغربية"!
ولطالما عمل نتنياهو، منذ عام 2014، على إغلاق باب المسار السياسي مع السلطة الفلسطينية، الذي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية وفقا لمبدأ "حلّ الدولتين"، ولم يترك مناسبة إلا وهاجم بها السلطة، كان أحدثها رفضه حكمها قطاع غزّة، بإعلانه أنه لن يكرّر"خطأ" اتفاق أوسلو، الذي مات قبل أن تدوس جنازير الدبابات الإسرائيلية أرض القطاع بفترة طويلة.
وكان استطلاع للرأي، أجراه، أخيرا، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في رام الله، أظهر أن نحو ثلثي الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع، أعربوا عن اعتقادهم بأنه يجب أن تحكم "حماس" القطاع بعد انتهاء الحرب، مقابل 11% أعربوا عن اعتقادهم بأن تتولّى الحكم فيه حكومة وحدة وطنية تابعة للسلطة الفلسطينية، لكن بدون الرئيس محمود عبّاس، ما يؤشّر إلى تدنّي شعبية السلطة في الشارع الفلسطيني على نحوٍ غير مسبوق.
لطالما عمل نتنياهو، منذ عام 2014، على إغلاق باب المسار السياسي مع السلطة الفلسطينية، الذي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية وفقا لمبدأ "حلّ الدولتين"
ورغم تأييدها اللامحدود إسرائيل، ودعمها حربها على قطاع غزّة سياسيا وعسكريا وماليا، فإن الولايات المتحدة تعارض احتلال إسرائيل قطاع غزّة مجدّدا، وتأسيس إدارة سياسة تتبع لها بعد انتهاء الحرب عليه، وترى أن السلطة الفلسطينية "المتجدّده" هي من يجب أن تحكم القطاع، كما عكس ذلك مقال الرئيس الأميركي، جو بايدن، في صحيفة واشنطن بوست، إلا أن الدبلوماسية الأميركية لم تقدّم توضيحا لما تعنيه بـ "سلطة متجدّده"، واكتفت وزارة الخارجية الأميركية بالقول في بيان في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2023، إن "السلطة الفلسطينية ليست في وضعٍ يسمح لها بإدارة غزّة، لكننا نعتقد أنها ممثلٌ للشعب الفلسطيني، ويجب إصلاحها، وتنشيطها للمضي نحو إعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزّة وحكمهما".
ورغم ضبابية مصطلح "السلطة المتجدّدة" إعلاميا، الا أن ما رشح من معلومات، عن النقاشات التي جرت بين المسؤولين الأميركيين والرئيس محمود عبّاس، خلال زياراتهم المتكرّرة "المقاطعة" في رام الله، ومنهم وزير الخارجية بلينكن، أفادت بأن الأميركيين يعنون بالسلطة "المتجدّدة" إجراء إصلاحات لمكافحة الفساد المستشري في مؤسّساتها الحكومية وغير الحكومية، وتمكين المجتمع المدني ودعم صحافة حرّة، كما تشمل أيضا تنازل الرئيس عبّاس عن بعض صلاحياته في السلطة، وإناطتها بنائبٍ له، بالإضافة إلى تسليم مزيدٍ من الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء.
وإذا لقيت هذه المطالب الأميركية قبولا من السلطة الفلسطينيية، فإنها لن تلقى قبول إسرائيل، التي تتهم السلطة، نهارا جهارا، بأنها شريكة في "الإرهاب"، لأنها تموّل من تسمّيهم "الإرهابيين" وعائلاتهم، وتعلم الأجيال الفلسطينية الناشئة "الإرهاب" في المناهج المدرسية. إن لإسرائيل تعريفها الخاص بسلطة فلسطينية "متجدّدة"، وهو أن تؤدّي وظائف تخدم السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. ولتحقيق ذلك، تقرصن إسرائيل، بشكل منهجي، أموال الضرائب بذرائع مختلفه، وتمنع العمّال الفلسطينيين من العمل فيها، حتى وإن كان ذلك بسبب الحرب وغيرها من السياسات.
وضع الإعلام الإسرائيلي تعريفا لـ السلطة الفلسطينية "المتجدّدة" من منظور إسرائيل، حيث طرح الصحافي أساف جلعاد، في مقال في موقع غلوبس، البدائل المحتملة لقيادةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ، قوامها شخصيات من الداخل والخارج مقرّبة من إسرائيل، تشكّل حكومة تكنوقراط منزوعة "الدسم" السياسي، لاستبدال القيادة الحالية، التي وصفها جلعاد في مقاله بالفاسدة، والتي تتراوح أعمار أعضائها بين 70 الى 80 عاما.
لإسرائيل تعريفها الخاص بسلطة فلسطينية "متجدّدة"، أن تؤدّي وظائف تخدم السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة
مثال آخر عما يدور في العقل الإسرائيلي، من تصوّرات للسلطة المتجدّدة أيضا، ما ورد في ورقة للباحث في معهد أبحاث للأمن القومي الإسرائيلي، أودي ديكل، من أن على إسرائيل أن تشترط على قيادة السلطة "المتجدّدة" أن تعترف بدولة إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وأن تصادق مجدّدا على الالتزامات التي وقعتها منظمّة التحرير في اتفاق أوسلو، كما تقترح الورقة، أيضا، تركيز احتكار القوة في يد السلطة، واستمرار تنسيقها الأمني الوطيد مع إسرائيل، وتفكيكها المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى تحديث مناهج التعليم الفلسطينية، بما لا يتضمّن أي مضامين ضد إسرائيل واليهود، ومنع التحريض في المساجد ووسائل الإعلام.
وفي ورقة موقفٍ أخرى، صدرت عن معهد القدس للإستراتيجية والأمن، لكل من كوبي ميخائيل وغابي سيبوني، يحدّد الباحثان الهدف لمعنى السلطة "المتجدّدة" أن تتحوّل إلى "إدارات مدنيّة" وليس إدارة واحدة، تشمل تقسيم الضفة الغربية إلى عدّة إدارات منفصلة، تديرها هيئات تكنوقراط، من دون أية صلاحيات سياسية، وبسيطرة أمنية كاملة للاحتلال، وعلى أن تعمل الآلية المدنية التي سيتم إنشاؤها في غزة، بشكل منفصل عن الآلية في الضفة الغربية..
ومن عجائب الدعوة إلى سلطة "متجدّدة" (وليست جديدة)، أنه لا إسرائيل ولا الولايات المتحدّة، تطرحان فكرة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية، كفيلة بإفراز نظام فلسطيني جديد، وليس النظام القائم حاليا موضع الدعوة إلى تجديده، هذا النظام الذي عملتا سويا على إضعافه وترهّله. وكان من أهم الأسباب لتآكل شرعية السلطة الحالية في الشارع الفلسطيني تحوّلها عن الهدف الذي أقيمت من أجله لإقامة دولة فلسطينية، إلى كيانٍ يرتبط بعلاقاتٍ أمنيةٍ مع سلطات الاحتلال، ويكاد يكون مشلولا سياسيا على الساحتين، العالمية والإقليمية، كما أنه عاجزٌ تماما عن كبح جماح الاستيطان، الذي التهم أراضي الضفة الغربية، وعاجز أيضا عن التصدّي لهجمات المستوطنين على الفلسطينيين في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية والقدس، من ضمن إخفاقاتٍ عديدةٍ أخرى...