هل تتجه فلسطين إلى ثورة ثالثة؟
حاصرت قوة بريطانية في 27 مارس/ آذار 1939 قرية صانور في منطقة جنين، واشتبكت مع القائد العام لثورة الـ 1936، عبد الرحيم الحاج محمد، ومجموعة من الثوار المرافقين له، الذين كانوا عائدين من دمشق في مهمّة للحصول على الأسلحة، بعد أن وشى بهم أحد عناصر "فصائل السلام" المناوئة للثورة المتحالفة مع البريطانيين، فسقط الحاج محمد ورفاقه في معركة غير متكافئة، ليُسدل الستار بذلك على الثورة الفلسطينية الأولى، التي عرفت بـ "الثورة الكبرى".
لثورة فلسطين الكبرى (1936 - 1939)، حيّز واسع في الذاكرة الجمعية الفلسطينية قبل النكبة، إلّا أنّ كثيراً من تفاصيلها ما زال مجهولاً لفلسطينيين وعرب كثيرين، ولا سيما في الجانب المظلم المتعلق بـ "فصائل السلام"، تلك التي عملت على القضاء على الثورة، وملاحقة نشطائها، وإذكاء روح الاقتتال الداخلي، الأمر الذي استفادت منه الحركة الصهيونية وسلطات الاستعمار البريطاني.
وكانت "فصائل السلام" قد تشكّلت في النصف الثاني من العام 1938، وجمعت مكوّناتها كلّ خصوم الثورة والمتضرّرين منها، والمستفيدين من الاحتلال البريطاني اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، كما استفادت تلك الفصائل من أخطاء قادة الثورة الذين بالغوا في فرض عقوباتٍ على مواطنين فلسطينيين، الأمر الذي استغلته سلطات الاستعمارالبريطاني للقضاء على ظاهرة العمل الثوري في فلسطين والاستمرار في تعزيز الاستيطان اليهودي فيها...
لم تتوقف السلطة الفلسطينية عن ملاحقة المقاومين ومصادرة أسلحتهم واعتقال بعضهم
وتمكّن الجنرال البريطاني، تشارلز تيغارت، من القضاء على ثورة الـ 36، بإقامة مراكز عسكرية وشرطية في المدن الفلسطينية الرئيسية، وهي ما عرفت في الضفة الغربية لاحقاً بـ"المقاطعات"، بالإضافة الى إجراءاتٍ أمنيةٍ أخرى. وفي المساعي نفسها، عمل تيغارت على تسليح "فصائل السلام"، وتوفير الغطاء الأمني لها في مواجهة فصائل الثورة، خصوصاً في الأرياف. ومن قادة "فصائل السلام" كان كلّ من فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي، اللذين كانا من قادة ثورة الـ 36، إلّا أنّهما انقلبا عليها، وحصلا على دعم شخصيات سياسية فلسطينية وازنة، تتقاطع مصالحها السياسية مع "فصائل السلام" ومع سلطات الاحتلال البريطاني، وتلتقي في معارضة الحاج أمين الحسيني الذي كان يتصدّر زعامة الحركة الوطنية آنذاك.
وفي 1964، ولدت منظّمة التحرير الفلسطينية في اجتماع لجامعة الدول العربية، لهدف "تحرير فلسطين"، وفي اجتماع في العام نفسه انتخب أحمد الشقيري أول رئيس للمنظمة، وجرى تأسيس المجلس الوطني برلماناً لها، كما تم تشكيل هيئاتها القيادية الأخرى، وفي شتاء 1967 استقال الشقيري ليتسلم يحيى حمودة رئاسة المنظمة، ليخلفه ياسر عرفات في المنصب عام 1969. وكانت لهزيمة حزيران / يونيو 1967 انعكاسات مباشرة على العمل العسكري والسياسي الفلسطيني، تمثلت في سقوط الرهان على دور الجيوش النظامية العربية، وبتحرّر العمل الوطني الفلسطيني من قيود "الوصاية " الرسمية العربية. وهكذا، انتشرت ظاهرة العمل الفدائي على نطاق واسع، خصوصاً بعد الانتصارالذي حققته قوات الثورة الفلسطينية والجيش الأردني، على القوات الإسرائيلية في معركة الكرامة في مارس/ آذار 1968. وبعد مواجهات واسعة اندلعت في سبتمبر/ أيلول 1970 بين الجيش الأردني وقوات منظمة التحرير، نجحت الحكومة الأردنية في إنهاء حالة "ازدواجية السلطة"، التي سادت بعد معركة الكرامة، وتمكّنت من القضاء على الوجود الفلسطيني المسلّح، ما فرض على منظمة التحرير وفصائلها المسلحة الانتقال إلى لبنان، إلى أن اقتلعت عسكرياً وسياسياً من لبنان نهائياً بعد الاجتياح الإسرائيلي له عام 1982.
أصبح الحكم الذاتي هو الوضع الدائم، وتلاشى حلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة
وفتحت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 آفاقاً جديدة أمام منظمة التحرير، وأعادت القضية الفلسطينية مجدّداً إلى الأجندات الدولية والإقليمية، لكنّ المنظمة، بتوقيعها اتفاق أوسلو مع إسرائيل عام 1993، الذي بموجبه تأسّس الحكم الذاتي الفلسطيني (السلطة الفلسطينية) مؤقتاً خمس سنوات، من دون البتّ في قضايا الوضع النهائي، أصبح الحكم الذاتي هو الوضع الدائم، وتلاشى حلم إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وعلى مدى ثلاثة عقود منذ توقيع اتفاق أوسلو، تآكل دور منظمة التحرير وذابت مؤسّساتها في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ولا سيما بعد الانتخابات الرئاسية 2005 والتشريعية 2006، ولم تعد هيئاتها أكثر من ختم للمصادقة على سياسات الرئيس الفلسطيني وحكوماته المتعاقبة.
شهد العام 2022 ومطلع عام 2023 مستجدّين على مجرى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الأول، ظهور مجموعات فلسطينية مسلحة بمسمياتٍ مختلفة في منطقتي نابلس وجنين شمال الضفة الغربية، وشنّ هجمات منفردة على مستوطنين وجنود إسرائيليين على طرقات الضفة، شكلت نقلة نوعية في المواجهة مع إسرائيل، أما الآخر، فهو تشكيل أكثر الحكومات تطرفاً يمينياً في تاريخ دولة الاحتلال...
وبعد إطلاقها العملية العسكرية "كاسر الأمواج" في مطلع العام 2022، في أعقاب الهجمات المسلحة التي شنّها شبان فلسطينيون في العمق الإسرائيلي، شنّت إسرائيل وتشن هجمات شبه يومية لاغتيال أفراد من المجموعات الفلسطينية المسلحة أو اعتقالهم. وكان العام 2022 قد شهد تصاعداً كبيراً في عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، بما يزيد على 1300 عملية إطلاق نار ودهس، وطعن وإلقاء عبوات ناسفة، وخلال هذا العام أيضاً قدّم الشعب الفلسطيني ما يزيد على 220 شهيداً، ونحو عشرة آلاف جريح، فيما أدّت الهجمات الفلسطينية إلى مقتل 31 إسرائيلياً وجرح 560.
وبعد أن سكر اليمين الإسرائيلي حتى الثمالة، لحسمه انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني لصالحه، وتشكيله الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، اعتقد أنّ الطريق معبدة أمامه لتنفيذ خططه من دون عوائق، لكنّ عمليتي مستوطنة النبي يعقوب وسلوان في القدس رسمتا حدود القوة أمام الفلسطينيين، فالقتل اليومي والعقوبات الجماعية تثبت اليوم، كما أثبتت في الماضي، لن تردع الفلسطينيين، بل على العكس تزيد من جرأتهم على التحدّي و"هدم المعبد على رؤوس أصحابه".
المشهد في فلسطين حالياً يظهر مدى انفصال القيادة بكلّ مكوّناتها عن الواقع
معظم المنضوين في مجموعات مسلحة، وأولئك المنفردين في هجماتٍ على أهداف إسرائيلية هم من الجيل الشاب، الذين لم يعاصروا الانتفاصة الثانية (2000 - 2004)، كما أنّهم لا ينتمون لأي من فصائل منظمة التحرير أو من الجناح العسكري لحركة حماس، إلا أن هذا الجيل فتح أعينه على قسوة القمع الإسرائيلي قتلاً واعتقالاً وتقييداً للحركة، ومصادرة للأرض وإقامة المستوطنات... كما أنّ الجيل الجديد المقاوم كان شاهداً أيضاً على تنسيق السلطة الفلسطينية أمنياً مع سلطات الاحتلال، في إطار التزامها بالعمل باتفاق أوسلو من "طرف واحد"، وتكوّنت القناعة لدى هذا الجيل بأن السلطة الفلسطينية انقلبت على دورها، بقيامها بدور مشابه للذي لعبته "فصائل السلام" في الانقلاب على ثورة الـ 1936. ومن الواضح أنّ أداء القيادة السياسية الفلسطينية المرافق للمقاومة المسلحة ليس منسجماً ولا مواكباً لها، وأنّ المشهد في فلسطين حالياً يظهر مدى انفصال القيادة بكلّ مكوّناتها عن الواقع. وطوال عام 2022، لم تتوقّف العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتحديداً في منطقتي جنين ونابلس. وفي خط موازٍ، لم تتوقف السلطة الفلسطينية عن ملاحقة المقاومين ومصادرة أسلحتهم واعتقال بعضهم، وممارسة ضغوط نفسية عليهم ترغيباً وترهيباً، وعرض المال والوظائف عليهم مقابل تركهم السلاح.
ستستمر هجمات المجموعات الفلسطينية المسلحة على أهداف إسرائيلية، وربما تتسع خلال العام 2023، لكنّ هذه المجموعات لن يكون في مقدورها أن تشكّل كياناً تنظيمياً مستقلاً يكون بديلاً سياسياً عن حركة فتح، العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، رغم حالة الوهن والتشتّت التي تعاني الحركة منها... لكنّ احتمال ما ستؤول إليه تلك المجموعات، أنها قد تشكّل حجر الأساس لثورة ثالثة ما بعد انهيار السلطة الفلسطينية، أما الاحتمال الآخر فهو أنّ حركة حماس قد تستثمرها، لتعزيز وجودها وتوسيع نفوذها في الضفة الغربية على المدى البعيد.