السودان أمام منعطف جديد
تتعدّد صيغ التحوّل الديموقراطي، وأبرزها، حسب الأدبيات ذات الصلة، توصُّلُ الأنظمة السلطوية والمعارضات إلى تسويةٍ تفتح المجال أمام تحوّل ديموقراطي متوافَق عليه وغير مكلف. وغالباً ما تنجح هذه التسوية، بعد أن تخفق الأنظمة في القضاء على المعارضات، أو على الأقل تدجينها، بالتوازي مع تحقّق قناعة لديها بأن الخروج من الأزمة يقتضي التفاوض مع خصومها بغاية التوصل إلى حلٍّ لا رابح ولا خاسر فيه. وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضات، التي تدفعُها صلابة الأنظمة التي تواجهُها إلى التفاوض معها، والبحث عن حل مُرضٍ للطرفين.
ضمن هذه المتلازمة، تشكّلت التجارب الكبرى للتحوّل الديموقراطي في العالم. وفي هذا الصدد، تطرح الحالة السودانية أسئلةً بشأن إمكانية تحقّق هذا السيناريو. فمن ناحيةٍ، فشل المجلس العسكري، طوال السنتين المنصرمتين، في إضعاف تحالف إعلان الحرية والتغيير الذي رفض انقلاب المجلس على الميثاق الدستوري، وتنصّله من اتفاق اقتسام السلطة وتسليمِها، بعد ذلك، لحكومة مدنية. ومن ناحية أخرى، لم ينجح التحالف في تحويل الاحتجاجات التي شهدها السودان إلى ''كتلة حرجة'' تربك حسابات نظام عبد الفتاح البرهان، وتعجّل بتهاوي أركانه.
تنقسم التسوية المرتقبة بين المكون العسكري وتحالف إعلان الحرية والتغيير إلى مرحلتين؛ مرحلة اتفاق إطار بشأن تفاهماتٍ، تخصّ الدستور الانتقالي وتشكيل حكومة مدنية، ومرحلة ثانية تخصّ التفاوض على قضايا مصيرية، يقع في مقدمتها تفكيكُ بقايا نظام عمر البشير، وإعادة هيكلة أجهزة الأمن، وفك الارتباط بين الجيش والسياسة، والعدالة الانتقالية، وتحصين اتفاق جوبا للسلام، وبناء أسس جديدة للسلم الأهلي والاجتماعي، بما يغذّي، في مجمله، التحوّل الديموقراطي، ويضعه على السكّة الصحيحة.
هناك عوامل أفضت إلى إنضاج هذه التسوية، أبرزها إخفاق نظام البرهان في توسيع قاعدة مؤيديه، وعجزه عن تقديم حلول ملموسة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتراكمة في السودان. كما أن ورقة التطبيع مع الكيان الصهيوني لم تمنحه الدعم الدولي الكافي الذي كان يتطلع إليه، خصوصاً من الولايات المتحدة. هذا إضافة إلى أنه لا يتكئ على تحالف قبلي أو عرقي أو أيديولوجي يساعده على تغيير معادلة الصراع لصالحه، وبالتالي، البقاء في السلطة.
تعترض تحقق هذا السيناريو عقبات، لا سيما ما يتعلق بالبنية القبلية والعرقية للمجتمع السوداني، ورفضِ بعض القوى السياسية أي تسويةٍ مع العسكر، سواء تلك المحسوبة على نظام البشير، أو بعض الحركات المسلحة المؤيدة للعسكر، أوما تعرف بـ ''لجان المقاومة'' التي ترفض أي تسوية تتنكّر لتضحيات المتظاهرين. وهو ما يعني غياب حاضنة مجتمعية وأهلية واسعة يمكن أن تفتح أمام هذه التسوية آفاق التحوّل نحو الديموقراطية من دون تكاليف كبيرة.
إضافة إلى ذلك، هناك مشكلة أخرى قد تعصف بأي حلٍّ للأزمة السياسية في السودان. وتتعلق بمدى إمكانية محاكمة أعضاء المجلس العسكري على ما ارتكبوه بحق المتظاهرين من انتهاكات، أو العفو المشروط عنهم ضمن تسويةٍ شاملةٍ يتبادل فيها الطرفان تنازلاتٍ قد يكون بعضها مؤلماً، لكنه يبقى ضرورياً لإتمامها وتجنب فشلها الذي قد يلقي بالسودان نحو المجهول. يعني ذلك أن العسكر لن يقبلوا بتسويةٍ لا تُحصّنهم من المساءلة. ولذلك، قد يكون استمرارهم ضمن نسق السلطة السياسية التي ستنبثق عن التسوية المرتقبة جزءاً من هذه الأخيرة.
أوصل انقلاب 25 أكتوبر (2021) السودان إلى الباب المسدود. واستمرارُ العسكر في السلطة يُنذر بتفجر الأوضاع في بلدٍ أنهكه الاحتقان الاجتماعي والسياسي والنزاعات المسلحة. ويبقى الحل الأنسب تضييق دائرة الخلافات بين الطرفين، وتوصلهما إلى تسوية سياسية متوافق عليها. وإذا ما نجحت المعارضة السودانية في بلورة موقفٍ موحّدٍ بشأن مكونات الحكومة القادمة ومدنيةِ الدولة وعفو مشروط عن العسكر، فإن ذلك قد يؤدّي إلى ضمان حد أدنى من التوافق داخلها، بما يطمْئن نظام البرهان، ويشجّعه على تقديمه تنازلات.