الصحراء المغربية في انتظار بايدن
اتخذ المغرب قراراً صعباً بخصوص "الصحراء المغربية"، خلال الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس دونالد ترامب. ويمكن القول إن القبول بالاعتراف الأميركي، وفي السياق الذي حاولت الدبلوماسية المغربية أن تنأى به عنه، كان من أصعب تلك القرارات على الإطلاق. ولذلك، سعت الدولة المغربية إلى الفصل بين مسارين: مسار الاعتراف بمغربية الصحراء، والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وفي هذا السياق الدقيق، كان الاتصال بالرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، الذي شدّد فيه الملك محمد السادس على "أن المغرب يضع دائماً القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها لن يكون أبداً، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة".
ويوم كنا نتابع الإعلام المغربي، وفي معظم القنوات التلفزية والإذاعية الرسمية، ظل التركيز على القرار الرئاسي لترامب هو الغالب، غير أنه كلما تمّ التطرق إلى التطبيع، كان الموضوع يُسوَّغ باعتباره مجرد إعادة فتح "مكتب الاتصال"، وحق اليهود المغاربة في إسرائيل بزيارة بلدهم الأصلي، .. إلخ. ولذلك، لم نكن لنعدم وجهات نظر ومواقف، ظلت تُبالغ في التطرّف، انحيازاً للتقارب المغربي - الإسرائيلي، وما يمكن أن يعود به من منافع على المغاربة (استثمارات، تكنولوجيا متطورة، .. إلخ). ومن تلك التسويغات الطريفة، التي كانت ترد على ألسنة بعض المحللين، أن "إعادة الاتصال" يمكن أن "تُحلحل" القضية الفلسطينية، بعد تعذّر ذلك بقوة السلاح.
من الإيجابيات المُعتبرة للاعتراف الأميركي، من غالبية المحللين السياسيين المغاربة الذين فُتح في وجههم المجال الإعلام الوطني، أن قضية الصحراء انعطفت منعطفاً جديداً
هل كانت مردودية الاعتراف الأميركي إيجابية على قضية المغرب الأولى، في مقابل انعدام التأثير السلبي للتطبيع المغربي - الإسرائيلي على القضية الفلسطينية؟ فلسطين والصحراء قضيتان عادلتان، بالنسبة لأهليهما من الفلسطينيين والمغاربة، على الرغم من "أخطاء" شابت مسارات تدبيرهما معاً. لنترك الجزء الأول من المعادلة، المطروحة في السؤال، على أساس أن نتفرّغ لتحليل الجزء الثاني منها. من وجهة نظر بعضهم، يبدو أن المغرب "دخل" في مغامرة، حين تمت الموافقة على العرض الذي قُدِّم له، عبر الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء. هل كان على المغرب رفض ذلك العرض، وهو الذي يئس من "مناورات" أصدقائه وخصومه، على حد سواء، في استطالة مشكل الصحراء أكثر من أربعة عقود؟ من الإيجابيات المُعتبرة للاعتراف الأميركي، من غالبية المحللين السياسيين المغاربة الذين فُتح في وجههم المجال الإعلام الوطني، أن قضية الصحراء انعطفت منعطفاً جديداً. وبالإضافة إلى ذلك، وإلى قراراتٍ أخرى مُواكِبة للـ"اعتراف"، كان هناك وعد بدفع أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية إلى الإقدام على تبنّي الإعلان الرئاسي.
هل كان التنسيق مع إدارة ترامب، وهي تجمع حقائبها من البيت الأبيض، مغامرة فعلاً؟ ثم هل كانت طبيعة الاعتراف الأميركي، مُجسَّدة في القرار الرئاسي، ذات نفوذ قانوني على الإدارة الجديدة؟ إن لم يكن هناك توقُّع بإعادة انتخاب ترامب، فقد صار هناك عزم مغربي على استثمار "الفرصة"، بحشد حلفائه على السير في المنوال الأميركي نفسه. وفي السياق ذاته، لم يكن من المقبول الاستهانة بالدور الإسرائيلي، وقُوى ضغطه المهيمنة على مختلف الإدارات الأميركية المتعاقبة (لم يعد محللون سياسيون مغاربة يتحرّجون من التعبير عنه). أما الأصدقاء الأوروبيون، وفي طليعتهم دولهم الكبرى، فقد كان التقدير أنهم إذا لم يتبنوا الخطوة الأميركية، فإنهم لن يقفوا في وجهها على كل حال.
ما زال المغرب ينتظر الموقف الصريح لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في موضوع الإعلان الرئاسي لدونالد ترامب
اليوم، يمكن تفهُّم الغضب المغربي القوي من إسبانيا وألمانيا، بسبب عدم الانحياز إلى القرار الأميركي. ذلك أن إسبانيا التي تَعتبر نفسَها معنيّة بملف الصحراء، تدخّلت لدى الإدارة الأميركية، من أجل ثنيها عن قرار الاعتراف ذاك. ومما زاد في حدّة الغضب المغربي، أيضاً، استقبال أحد مُستشفياتها زعيم جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، سرّاً، وبجواز سفر واسم جزائريين "غير حقيقيين". وكذلك، كان الحال مع الموقف الألماني الذي اعتبرته الخارجية المغربية "سلبياً بشأن قضية الصحراء المغربية، إذ جاء هذا الموقف العدائي في أعقاب الإعلان الرئاسي الأميركي (...)، وهو ما يُعتبر موقفاً خطيراً لم يتمّ تفسيره لحدّ الآن". وإذ أقدم المغرب على تعليق كل اتصال أو تعاون مع السفارة الألمانية في الرباط، إضافة إلى استدعاء السفيرة المغربية من برلين يوم 6 مايو/ أيار الحالي، ما زالت تبعات رد الفعل المغربي، المتصلة بالاستقبال الإسباني لإبراهيم غالي، تتفاعل.
بتلك الخطوات الحادّة والمباشرة، يكون المغرب قد أخلص لنهجٍ، أخذ يتبنّاه ضد كل من بات يناوئ وحدته الترابية. وعلى الرغم من قوة تلك الدول، مثل إسبانيا وألمانيا وحتى فرنسا، إلّا أن الأوراق الخاصة، بخصوص الهجرة غير الشرعية والأمن وغيرهما، باتت تُمكِّن المغرب من رفع صوته عالياً. وإذ بدأت المناورات الأوروبية في الانكشاف، ما زال المغرب ينتظر الموقف الصريح لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في موضوع الإعلان الرئاسي لدونالد ترامب. وعلى الرغم من عدم التعبير عن موقف جديد، إلا أن اجتماع مجلس الأمن الدولي، الحاصل يوم 21 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) أثار تساؤلاتٍ كثيرة بشأن "البرودة" التي تعاطى بها مُمثل الإدارة الأميركية مع ملف الصحراء المغربية، ففي حين كانت الرباط تنتظر تحديد المسؤولية عن خرق وقف إطلاق النار، وعرقلة عمل بعثة الأمم المتحدة (المينورسو)، وتعيين مبعوث جديد، لم تعلق الولايات المتحدة الأميركية على تفاصيل الجلسة، خلافاً لما جرت عليه العادة. وأكثر من ذلك، ما أزعج المغرب هو عدم تطرّق واشنطن إلى اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه.
على الحذر المغربي أن يكون قوياً، اتقاء للوقوع في "فخ" دولة الاحتلال الصهيوني، في صراعها الذي تريد جرّ المغرب إليه ضد إيران
تنتظر إدارة بايدن ملفات شائكة عديدة، في طليعتها النووي الإيراني، القوة المتصاعدة للصين، التدخلات الروسية في أوكرانيا، ... إلخ. وما لم يكن في حساب هذه الإدارة تفجُّر الأوضاع في فلسطين المحتلة، في ظل هيمنة اليمين الإسرائيلي الاستيطاني، بزعامة المتطرّف الكبير، بنيامين نتنياهو. ولذلك، يبدو أن ليس من المستعجل، بالنسبة لإدارة بايدن، وضع "القدم" في رمال الصحراء الآن. وإن يظهر أنها لن تُساير التوجُّهات المناوئة، لجيمس بيكر وكريستوفر روس وجيمس إنهوف وجون بولتون، إلا أن على المغرب الاشتغال أكثر مع شركائه المتعدّدين، وبخاصة في ظل عودة التنسيق الأميركي مع أوروبا.
من جهة أخرى، على الحذر المغربي أن يكون قوياً، اتقاء للوقوع في "فخ" دولة الاحتلال الصهيوني، في صراعها الذي تريد جرّ المغرب إليه ضد إيران، كما ظهر ذلك في تنبيه المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد (حول علاقة إيران بمليشيا البوليساريو). ففي وقتٍ تصر إدارة بايدن على العودة إلى الاتفاق النووي السابق مع إيران، كما تجرى تفاصيله في فيينا حالياً، وفي وقت يشهد بداية الحوار السعودي - الإيراني، من غير الحكمة السياسية الانخراط في التحالف الإسرائيلي ضد إيران. الاندفاع باتجاه إسرائيل مُكلِّف من نواحٍ عدة، وخصوصاً في ظل إصرار الأخيرة على وأد حلم الدولة الفلسطينية. ولنا في ما قامت به في القدس والأقصى، وخلال شهر رمضان الأبرك، وبعد الهدايا التطبيعية التي تحصّلت عليها، مثالٌ صارخٌ عن العنجهية الصهيونية المتطرّفة.
لا تبعات دراماتيكية من استعادة المغرب دوره "الفلسطيني" الفاعل، سيما في ظل "التّحجُّجات" التي رافقت حدث التطبيع
لقد اضطلع المغرب بدور مهم في لجنة القدس، عبر الاشتغال "على الأرض"، في مساعدة الفلسطينيين على البقاء في مدينتهم. وبعيداً عن الخطاب الإعلامي، تكاد تكون مُساهمة المغرب، في بيت مال القدس، الوحيدة. ومع ذلك، يؤشّر التواصل الحاصل، من إدارة بايدن وتركيا وروسيا، مع مصر وقطر والجزائر وتونس، على تراجعٍ ما في فاعلية التدخل المغربي، على الصعيد الفلسطيني. هل قلّص التطبيع الدور المغربي، مع العلم أن رئاسة لجنة القدس تعود للملك محمد السادس؟
يبدو لزاماً تحرّر القرار المغربي من المراهنة على "الآخرين"، في الدفاع عن وحدته الترابية، فللصحراء أهل يحمونها، وبخاصة في ظل الإجماع الذي تحظى به من المغاربة جميعاً. ومن هنا، لا تبعات دراماتيكية من استعادة المغرب دوره "الفلسطيني" الفاعل، سيما في ظل "التّحجُّجات" التي رافقت حدث التطبيع. كما أن من شأن فتح الفضاء العام للتظاهرات الشعبية، المُندِّدة بالممارسات الصهيونية الاستيطانية، أن يَدْعم الموقف الفلسطيني. ذلك أنه لا يُعقل أن تختفي التظاهرات المليونية، المؤيدة للحق الفلسطيني، دفعةً واحدة، وخلال هذه الهجمة الصهيونية غير المسبوقة.
حسب بعض التوقعات، لن تتخذ إدارة بايدن موقفاً ارتدادياً عن الإعلان الرئاسي الترامبي. كما أنها لن تتحمّس له، إذا أخذنا بالاعتبار اعتزامها إشراك أطرافٍ أخرى، ومنها أوروبية، لم تكن تنظر بعين الرضى إلى ما أقدم عليه ترامب. في انتظار بايدن، الذي قد يكون شبيهاً بـ"غودو" في مسرحية صمويل بكيت، ينبغي قراءة الوضع الجيو سياسي، الإقليمي والدولي جيداً، خصوصاً بوجود طرف جزائري عنيد، اتخذ "الصحراء المغربية" قضيته الأولى.