العراق والخليج .. النيات الطيبة لا تكفي
لا يبدو أن العراق قادر على طي صفحة علاقاته المعقدة مع دول الخليج، والسعودية خصوصا، فعلى الرغم من تصريحات إيجابية تصدر عن بغداد من وقت إلى آخر، تدل على نيات طيبة، إلا أنها تبقى بلا عمل. وفي السياسة، ليست الأعمال بالنيات، فما بالك إن كانت هذه السياسة بين دول عربية متجاورة غنية بالنفط وغنية بالخلافات التاريخية أيضاً.
لم تستقر العلاقة بين العراق وأغلب دول الخليج، منذ نيل تلك الدول استقلالها، ففي وقتٍ كان العراق عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي في الستينيات، كانت هذه الدول تسير بخطى حثيثة إلى نيل استقلالها، ومحاولة اللحاق بالمجتمع الدولي، غير أن الأيام كانت كفيلة بتغير الحال، فبينما استفادت دول الخليج من الطفرة النفطية التي غيرت كثيرا من معالمها، وقادتها إلى صدارة دول العالم في التنمية، كان العراق يرزح تحت حكم أنظمةٍ شموليةٍ قادته من حروبٍ الى حصار ثم احتلال. ولعل أكبر نكسات العراق تمثلت بغزوه الكويت، وما تبع ذلك من قطيعة خليجية طالت أكثر عقد، انتهت باحتلال العراق، بدعم ودفع دول خليجية بعينها، للتخلص من عبء النظام السابق الذي قاد غزو الكويت.
ولأن السياسة لا تعرف الثبات على حال، بدأت تلك الدول الخليجية التي دفعت باتجاه غزو العراق وإسقاط نظامه الذي رأته تهديداً لها عقب غزوه الكويت، تشعر بالندم، بل تشعر بفداحة ما أقدمت عليه، فقد تحوّل العراق حديقة خلفية لإيران، وباتت التهديدات لتلك الدول، وتحديداً السعودية، تأتيها من حيث لا تحتسب، من العراق الذي ظنت الرياض، وهلةً، أنه سيتحول دولة ضعيفة غير قادرة على أن تتحرّش بجيرانها بعد إسقاط نظامه. وهي اليوم تحاول الدخول إلى العراق من بوابة الاستثمار، في محاولةٍ جديدةٍ متجددةٍ لمزاحمة النفوذ الإيراني في البلد. ولعل زيارتي رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، المرتقبتين للسعودية والكويت؛ تأتيان في إطار محاولته إيجاد منفذ على دول الخليج، وأيضا إتاحة منفذ لهما في العراق، على الرغم من تهديد جماعات وقوى وأحزاب عراقية موالية لإيران، حذّرت من أي وجود استثماري سعودي في العراق. وتشعر السعودية بحاجتها إلى الوجود في العراق، ليس فقط لمزاحمة النفوذ الإيراني، وإنما أيضا لأنها باتت تدرك حاجتها إلى أسواق جديدة واستثمارات متنوعة، يمكن أن تسهم في تحقيق رؤية ولي العهد محمد بن سلمان، الذي تعهد بأن تنوع بلاده وارداتها، ولا تبقى معتمدة على النفط.
أكبر نكسات العراق تمثلت بغزوه الكويت، وما تبع ذلك من قطيعة خليجية طالت أكثر عقد، انتهت باحتلال العراق، بدعم ودفع دول خليجية
أما العراق فإنه يقع بين كماشتي النار، إيران والولايات المتحدة، فقد قرّرت واشنطن، أخيرا، إعفاءه من تطبيق العقوبات المفروضة على إيران 45 يوماً فقط، تنتهي قبل موعد تسليم ترامب مفاتيح البيت الأبيض لجو بايدن، بمعنى أن أي إعفاء قادم للعراق قد لا يكون متاحاً، ما يعني أن على حكومة بغداد أن تعجّل بالتفكير بإيجاد بدائل مناسبة لإيران التي يعتمد العراق على طاقتها الكهربائية المصدّرة له، وليس هناك أقرب من السعودية الراغبة بدخول السوق العراقية المتعطشة والكبيرة جداً. ولكن الاستثمار السعودي، من وجهة نظر القوى والأحزاب والمليشيات المؤيدة لإيران، استعمار، على ما قال رئيس ائتلاف دولة القانون، رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، رجل إيران القوي في العراق، وسيكون هذا الاستثمار بمثابة فرصة لمليشيات موالية لإيران، لإيجاد هدف جديد لها ولعملياتها المسلحة.
لا يبدو أن العلاقة العراقية الخليجية ستكون قادرة على تجاوز اللحظة الحرجة، فحتى لو توفرت النيات الطيبة والرغبة والحاجة لدى الجانب العراقي، فإن تحويلها إلى واقع عملي على الأرض سيصطدم بالمصالح الإيرانية القوية في العراق، بمعنى، أن إيران لو وجدت في الدخول السعودي الساحة العراقية مصلحة لها، لن تمانع، وهو أمرٌ على الرياض أن تدركه جيداً، فالمصالح السعودية في العراق، المستقبلية طبعاً، يمكن أن تتحوّل إلى ورقة مساومة ومقايضة لدى إيران، أي أن طهران ستزيد رصيدها من بنك الأهداف، وتزيد عدد أوراق اللعب لديها في العراق. وبالتالي، يحتاج أي دخول سعودي إلى العراق قوة تحميه، ولا يبدو حالياً أنها متوفرة.
أما الحديث عن فتح العراق صفحة جديدة في علاقته مع الخليج، والسعودية تحديداً، فيبدو حالما، فلا العراق، بحكومته الضعيفة، ولا السعودية التي لا تملك أي أوراق لعب في العراق، بإمكانهما فتح الصفحة الموعودة، ما يعني أن العلاقة ستبقى رهنا بما تريده إيران، وبتغييراتٍ ربما تحدث في المنطقة، بعد أن يستقر ساكن البيت الأبيض الجديد على كرسي إدارة العالم، ويقرّر ماذا سيفعل بالشرق الأوسط. وحتى ذلك الحين، كل ما ستسمعه او تقرأه أو تشاهده من زيارات وزيارات متبادلة؛ عراقية سعودية، مصيرها الانتظار، لتبقى العلاقة العراقية، الخليجية عموما، والسعودية بشكل خاص، رهن خيارات الآخرين، أولئك الذين عرفوا كيف يستغلون لحظة احتلال العراق، ويتمدّدون بين مفاصله المتعبة، وليس رهن خيارات الذين صدّقوا وعود أميركا أن احتلالها العراق لن يكون فرصةً للنفوذ الإيراني، فقرّروا أن يجلسوا ويراقبوا المشهد، حتى تحولوا اليوم إلى ضحية غياب الرؤية والتخطيط.