العرب والأولمبياد والتقدّم
لم تكن دورة الألعاب الأولمبية في فرنسا حدثاً رياضياً عالمياً فحسب، ذلك أنّها أثارت من حولها زوابعَ كثيرة، قبل أن تُختتَم فعّالياتها في الـ11 من شهر أغسطس/ آب الحالي. وساهمت المرتبة التي حقَّقتها فرنسا بحصولها على الموقع الخامس بـ64 ميدالية في تخفيف حدّة الجدل السياسي الذي هيمن على المشهد العام بعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حلّ البرلمان واجراء انتخاباتٍ تشريعية مُبكّرة، حازت فيها الجبهة الشعبية الجديدة، التي تشكّلت من ائتلاف أحزاب اليسار، العددَ الأكبرَ من مقاعد مجلس النواب، في وقتٍ كانت استطلاعات الرأي تُرشّح اليمين المُتطرّف للصدارة ورئاسة الحكومة. ولكن أيّاً من الكتل البرلمانية الثلاث التي تنافست لم تصل إلى سقف امتلاك أغلبية برلمانية تؤهلها لتشكيل حكومة بمفردها، الأمر الذي سمح لماكرون بهامش مناورة حتّى نهاية ولايته في 2027، غير أنّ الأزمة السياسية لا تزال قائمةً، وهي مُرشَّحةٌ للتطوّر بعد نهاية العطلة الصيفية أكثر ممّا كانت عليه.
عكست نتائج الألعاب الرياضية مدى التطوّر الذي حقَّقته بعض الدول في هذا الميدان، ولم يكن من فراغٍ أنّ الولايات المتّحدة تصدَّرت العالم في عدد الميداليات، ومن ثمّ تلاها بالترتيب كلٌّ من الصين، واليابان، واستراليا، وفرنسا، وهي البلدان التي سبقت غيرها في الاقتصاد والتعليم والصحَّة والأمن والبنى التحتيّة والثقافة والإعلام. وفي ما يخصُّ العربَ، كانت حصيلة المشاركة في الأولمبياد كارثيةً، وعكست إلى حدٍّ كبيرٍ حال المشهد العام في بعض البلدان العربية، وما بلغته الدولة من تراجع، والمثال على ذلك مصر، التي كانت رائدةً في الرياضة، والمؤسف أنّها جاءت في آخر ترتيب الفرق العربية التي حصلت على ميداليات، وحازت ميداليةً برونزيةً واحدةً، وتشوّهت سمعة فريقها بسبب فضيحة تحرُّشٍ من أحد لاعبيها، وكان العزاء من دول أخرى، إذ حصلت الجزائر على ذهبيتَين، وتونس على ذهبية وفضّية وبرونزية، والبحرين على ذهبية وفضّية، والمغرب على ذهبية وبرونزية، وحاز الأردن فضّيةً.
ثمّة من ينظر إلى الرياضة نظرةً متخلفةً ويستهين بها، ولا يرى فيها مُؤشّراً إلى تقدّم الدول وحيوية المجتمعات، وطموحاً مشروعاً للسير على طريق التنمية البشرية، ومجالاً للمنافسة في التنظيم والبناء والنشاط الإنساني، والدليل على بؤس هذه النظرة السلبية هو التقدير الذي حظيت به دولة قطر بفضل تنظيمها مونديال عام 2022 في أرضها، ونال البلد الصغير التقدير والاحترام العالمي لنهوضه في تحدّي إنجاح أكبر حدث رياضي كوني، على هذا القدر من الحجم والأهمّية، واستطاع بلد عربي في قرابة شهر أن يكون مركز العالم، بحاضره وماضيه ونظرته إلى المستقبل، واستقبل مئاتَ الآلاف من المشجّعين من شتّى القارّات، ولم يحصل خلال هذه الفترة ما يُعكّر صفوَ المناسبة، ولذلك استحقَّ الثقةَ ونال المصداقية. وعلى هذا المنوال، تأهّل المغرب إلى مشاركة كلّ من إسبانيا والبرتغال في تنظيم مونديال عام 2030. وقد حصل على ذلك بفضل ما حقَّقه منتخبُه لكرة القدم من نتائجَ على المستوى العالمي، وجديدها أخيراً في مونديال قطر، حيث كان الفريق العربي الوحيد الذي بلغ نصف النهائي، وحاز الموقعَ الرابعَ عالمياً في منافسةٍ مع فرق قوية. ولا يعكس ذلك المستوى المُتقدّم للرياضة فقط، بل حال الاستقرار السياسي والتقدّم في مستوى البنى التحتية والتعليم والصحّة، حيث وفرّ لمواطنيه ضماناً عامّاً، ومستوىً لائقاً من العيش، وهذا كلّه يُؤخذ بالاعتبار، ويجرى اعتماده مقياساً حينما يقيّم بلد ما من منظور عالمي بخصوص الشراكة والاستثمار الاقتصادي والتعاون في الميادين كافَّة.