الكذبة غير البيضاء
يحقّ للمرء أن ينتابه الإحساس بالزهو عند تحقيق منجزٍ ما، كأن يتوصل إلى اختراع علمي خطير، من شأنه الإسهام في تقدّم البشرية، أو يبدع أعمالا فنية خالدة، تؤثر على أجيال، وتؤهله للحصول على أكبر الجوائز، تحقق له المجد والشهرة، بل يحق لنا أن نفخر بمنجزاتنا البسيطة مهما بدت صغيرة. تلك مسألة طبيعية تلبّي حاجتنا النفسية في الحصول على إقرار المجموع وإعجابه، لأن تحقيق الشهرة وسماع التصفيق وعبارات الإطراء أمر يدعو إلى الفرح، ولا أحد بإمكانه إنكار حالة البهجة التي تعترينا، حين يمتدحنا أحد ويثني على منجزاتنا ومواهبنا وقدراتنا. لكن وفي حالاتٍ كثيرة، تزيد الأمور عن حدّها، وتصل عند بعضهم (سيما في الأوساط الثقافية) إلى مرحلة متقدّمة خطيرة من النرجسية والغرور، يقعون بسهولةٍ تحت وهم أنهم مركز الكون، وأن كل ما يدور في الحياة ينبغي أن يتمحور حولهم فقط وحصرياً، يثابرون على الدعاية والإعلان، ويكرسون كل جهدهم للترويج عن أنفسهم في كل مناسبة. لا يتقنون الإصغاء من حيث المبدأ، وذلك من فرط انهماكهم بذواتهم. يطرحون أنفسهم عن اقتناع تام (!) ظواهر خارقة مكتفية بذاتها كاملة الأوصاف عز نظيرها، ويتوقعون من الآخرين التعاطي معهم على هذا الأساس. يرون أنفسهم في مرتبةٍ أعلى من الجميع، ويتعاملون بفوقية غير مبرّرة، يحاولون التقليل من أهمية أي فرد سواهم، غالبا ما تظهر عليهم علامات الغيرة الشديدة، لا يطيقون نجاح أحد غيرهم، ويعتبرون صعود نجم أي مبدع جديد تهديدا شخصيا لمكانتهم المزعومة.
يكفي أن تجول على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، لتستنتج، من احتفالهم المفرط بذواتهم، أن هؤلاء ليسوا أكثر من حالات مرضية تقليدية، تستدعي تدخلا علاجيا، يهذّب سلوكهم المنفر، ويعمل على تخليصهم من أوهامهم وعقدهم، نفسيات مضطربة، عاجزة عن التواصل الطبيعي مع الآخرين، ترسل ولا تستقبل، وتظل أسيرة لوهم التفوق والتميز، لا تتوانى عن الاستخفاف بمنجزات الغير. وفي أحسن الأحوال، يعمدون إلى تجاهلها وعدم الاعتراف بها وسيلة بائسة للدفاع عن النفس، غالبا ما تكون حياتهم الاجتماعية قاحلةً مقفرة، تقتصر على بعض المريدين من المضللين، يهابون التعامل مع الأنداد، كي لا تكتشف هشاشتهم وحجم الخديعة التي يمارسونها على أنفسهم وعلى الآخرين. بارعون في امتداح أنفسهم من دون خجل.
المؤسف أن أمثال هؤلاء حاضرون بقوة في الإعلام، ويساهمون في تعميم الرداءة وضيق الأفق. يستغلون انسحاب المبدعين الحقيقيين المترفعين غير المتهافتين على المنابر، فيصولون ويجولون من دون الخشية من لومة لائم، ويساهمون في مزيد من التشويه للمشهد الرديء أصلا. لا يمكن، والحالة هذه، إعفاء المبدعين الحقيقيين من مسؤولياتهم، فهم بنكوصهم وتراجعهم، أفسحوا المجال لعديمي الموهبة ممن أخذتهم العزة بالإثم، معتمدين على عدم نضج المتلقي وتدنّي ذائقته، فتصوّروا أنفسهم أصحاب أعمال أدبية وفنية ذات سوية عالية، فأمعنوا في الإنتاج التافه الغزير فاقد المعنى والمضمون، تستقبلهم بحفاوة القنوات الفضائية ودور النشر ومؤسسات الجوائز، مشبوهة الأهداف، فيتذوقون طعم النجومية الخدّاع، ويصدّقون أنفسهم، ويوغلون في نرجسيتهم وضحالتهم.
تذمّر كاتب معروف جرى تسويقه مبدعا عظيم الشأن من تقصير الدولة في حقه، على الرغم من عدد كتبه الكبير. وعندما سئل عن رأيه في بعض زملائه من الكتاب، ردّ بفوقية إنه ليس لديه وقت لقراءة الإصدارات المحلية. وطالب آخر معروف بشرائه ذمم نقاد مأجورين بإقامة مؤتمر أدبي يتناول أعماله بالغة الرداءة. وفي أجواء المجاملة والنفاق التي تسود الأوساط الثقافية، لا أحد يواجه هؤلاء بحقيقتهم المؤسفة، فتستمر الكذبة غير البيضاء، ويمضي بهم الوهم نحو مزيدٍ من التخريب والتشويه والدمار، ويتكرّس عصر التراجع والانحطاط على أكثر من صعيد!